دراسة نقدية للأديبة والناقدة الأكاديمية كنانة عيسى لقصة ثبات مزعوم للأديب محمد كمال سالم
الأدب الواقعي المتجدد
في هذا النص المائز نرى مشهدية حسية
دقيقة استخدم الكاتب فيها نوعين من الوعي
وعي عميق نفسي خص السارد بلغته الجسدية و مونولوجه الداخلي وتأزمه النفسي و وعي جمعي شمولي حكم النص بالمتوقع و المألوف والمعلب الذي سيفاجئنا نحن القراء بنهاية غير متوقعة، وجدانية
استثنائية. تقابل مفهومنا لأدب الصدمة ومحاكمتنا الأخلاقية لمفهوم الظالم والمظلوم.
لغة السيناريو التفصيلة ومحاكاتها للغة السرد
بدأ الاستهلال بلغة وصفية تقترب من مشهدية الكتابة السينمائية التي تركز على لغة الجسد و تتواطئ مع انطباع مسبق مرتبط بثقافة القارئ ومخزونه المرئي والمسموع عن الشكل النمطي لل (البلطجي)، (المجرم ذو السوابق) ، الهارب من العدالة أو المحكوم بذنب لاندركه ولكننا نرى أثره، ورغم ذكورية المشهد الغني بالتفاصيل المتداخلة في محاكمتنا كقراء فنحن منشدّون للسرد ،راغبون بمعرفة هوية الأنثى التي انغرز هذا الشخص الغض المشبوه تحت نافذتها غير عابئ بأي شيء إلا من انتقام نافذ يروي غليله. وكما ورد في النص
غير عابئ بالزحام من حوله، كذئب يترصد فريسة شاردة.
كان الناظر إليه لا يستطيع تحديد عمره، صدره المنتفخ بصورة متكلفة، عيناه الجاحظتان كأنهما لم يعرفا للنوم سبيلا، سحجات سطحية دامية فوق صدغه الأيسر، ثبات مزعوم، إعلان جرأة كاذبة خادعة، لا يلحظها إلا خبير،
إذا نظر المار إليه يظنه رجلا كامل النضوج.
أفق الأدب الواقعي
لا يمكن لنص كتب بهذه الطزاجة و العفوية أن يحاكم كنص قرأ سابقًا، كمشهد من فلم رأيناه وترك أثره في ذاكرتنا، بل ينحرف المشهد نحو استجابة لوضع اجتماعي يتضمن حدثًا فكريًا وتجديدًاً على مستوى صياغة المتن من خلال حساسية المبدع في تقديم الإنسان في العمل الأدبي بنيويًا وعدم حياديته المطلقة ،مثل استخدتم مفردات محددة
السارد اللاموثوق
استخدم الكاتب السارد المتكلم كوسيلة لإظهار الحدث الذي سيوشك على الحدوث، حدث مبهم ينتظره القارئ بترقب، ذكورية شديدة تتصل بروح اللغة
وثوقية القراءة ومجموعة التغيرات التي نحاول فيها مواجهة ما يقدمه النص لنا من بطل يقص حكايته المشبوهة التي ننحاز فيها ضده دون قصد،، ونحاكمه بلاوعينا و نتمنى سقوطه وإدانته. لكن النهاية تصلب
المتن القارئ وتحول مجرى السرد خلاف أفق التوقعات
وببراعة شديدة تحول انحيازًا ضديًا سيميائيًا نحو البطل المنقوص بتلبسه بجرم نحو المنقوص بضعفه وهشاشته أمام أمومة عاقة وقهر جارف وخذلان لا عودة منه.
المكان في السرد
تمكن الكاتب من توظيف المكان لتوجيه السرد نحو صياغة حبكة متسلسلة تبدأ من بداية رسم ملامح الشخصية التي فرزها المجتمع وأدانها و كسرها، يتقوض المكان بهيئته رغبةً في تصوير تداعي الحالة النفسية المضطربة للسارد وتفاقم انهيارها العاطفي ونقطة ضعفها الوجدانية، حيث يتمثل (كاحل آخيل) بالابن الفاقد للأمومة،باليتم القاهر وبفقد حس العائلة وبغياب الأم.
نص واقعي مختلف بحبكته، وصياغته و أبطاله،حيث يتواشج الثبات الهش للبطل بضعفه التراجيدي بظاهر قوته الزائفة وانهياره أمام أمومة كاذبة مفجعة.
دام الإبداع
نص “ثبات مزعوم” للأديب محمد كمال سالم
تجمد هناك أسفل نافذتها، يشعل سيجارة فور انتهائه من أخرى, الشارع يئن تحت وطأة المحال والمارة، شاخصة عيناه صوب الضوء المتسلل من خلال شيش نافذتها، غير عابئ بالزحام من حوله، كذئب يترصد فريسة شاردة.
كان الناظر إليه لا يستطيع تحديد عمره، صدره المنتفخ بصورة متكلفة، عيناه الجاحظتان كأنهما لم يعرفا للنوم سبيلا، سحجات سطحية دامية فوق صدغه الأيسر، ثبات مزعوم، إعلان جرأة كاذبة خادعة، لا يلحظها إلا خبير،
إذا نظر المار إليه يظنه رجلا كامل النضوج.
ارتاب في مكوثه الطويل أحد أصحاب المحال، ذهب إليه مخاطبا:
(إنت واقف هنا ليه؟ وعايز مين؟!) التفت إليه في كبر، لم ينطق بكلمة، أخرج مطواة من جيبه الخلفي، فتحها بمهارة وسرعة، أشهرها في وجه الرجل بطريقة سينمائية، غادره الرجل خائفا ولم يعقب. استند بظهره إلى الجدار, أسفل النافذة المنخفضة من الدور الأرضي المرتفع, وراح يتمتم بصوت خفيض كأنما يحدث نفسه: سأظل واقفا هنا إلى أن تخرجي, سأعرفك كيف تهجريني أنا، وتبيتين في حضن هذا الجلف!
سأجبرك أن تهجريه وتعودي إلي, لن تتذرعي بعد الآن بقلة المال, وقد أصبحت قادرا على الوصول إليه بكل سبيل, سأقتل لك هذا الجلف الذي أويت إليه إن لم تنصاعي إلي, أو أقتل صغيرك منه الذي تدللين, وألقيتني أنا في مهب الريح, كنت بالأمس محموما أنتظر ضمادتك الباردة تعالجني، نسيت للحظة أنك ما عدت هنا. سأحرق فؤادك عليهما, وأقف أشاهدك تذرفين الدمع, تتوضئين من تراب القبور, تتذوقين طعم المر في حلقي، سأكسر قلبك لتذوقي طعم الألم, ويغادر النوم جفونك للأبد، نعم سأفعلها، ولن أتراجع كالمرة السابقة حين أشفقت عليكِ.
يخبو ضجيج الشارع رويدا رويدا, وهو مازال على حاله، لم يمل أو تتعب قدماه.
تغلق الدكاكين أبوابها وتتطفئ أنوارها واحدا تلو الآخر، يخبو ضوء الشارع، يشعل آخر سيجارة معه، يلقي بالعلبة الفارغة بطول ذراعه غاضبا،
يستدير لمواجهة النافذة، يسقط نورها المتقطع عرضيا على محياه، محياه الذي بدا أكثر غضبا واحتقانا، أخذ منه اليأس مأخذا, أخرج مطواته من جديد, شهرها عاليا بيد، وراح يضرب بالأخري على الشباك الموصد صارخا:
(إنت ياست, اخرجي, اطلعيلي بره هنا انت وابنك الحيلة, اخرجي, وريني وشك.)
يفتح الشباك بسرعة عنيفة, تصطدم ضلفتاه في الجدار محدثة صوتا عاليا، تخرج امرأة متلهفة،صكت وجهها: ابني؟! ( مش اتفقنا تفضل عند ابوك؟)
يظهر خلفها رجل ضخم يصيح في الشاب:
(إنت جاي هنا ليه يابن ال…….عايز إيه يا حرامي؟)
في نفس اللحظة, يعود صاحب المحل الذي كان يسأله عن سبب وقوفه الطويل, وفي صحبته رجلان من الشرطة:
_(هو ده البلطجي يا باشا, اقبضوا عليه.)
يعود الشاب لينظر لزوج أمه، يقول بصوت مهزوم يرتعد:
(سجايري خلصت, هات سيجارة)
التعليقات مغلقة.