موسوعه أدبية شاملة

teen spreads her legs for jock.https://fapfapfaphub.com

دعوة لتحطيم أصنام الغفلة في”منتصف يناير” لمحمود حمدون..كتبت سعاد إلزامك

311

دعوة لتحطيم أصنام الغفلة في”منتصف يناير” لمحمود حمدون


بقلم/ سعاد الزامك


اللاشعور كما عرَّفه “فرويد” منطقة افتراضية في النفس تحتوي الدوافع والذكريات والمخاوف والأحاسيس والوجدان والمكبوتات والعُقد النفسية. أما اللاشعور الجمعي حسب “كارل يونج”- هو شعور عِرقي- ويشتمل على أوهام عامة موروثة قديمة وتتبع قوانين تختلف عن قوانين الشعور. ويرجح “هورني” أن عصاب الموقف يبرز من القلق لصراع منفرد مثل أن يواجه بقرار صعب، وهو من الممكن أن يشلّ الفرد مؤقتا عن التفكير والتصرف بفعالية، وهو ليس عميقًا، وأن عصاب الفرد مميز بقلق أساسي وعدوانية أساسية نتيجة نقص الحب والعاطفة في الصغر.
بالرواية وقف “صابر” حائرا من دماء شيخه المنتثرة بالأرجاء وعلى سكين بيده وملابسه، يضربه سؤال عن الجاني الحقيقي أهو الفاعل أم قاتل يجهله؟ تملكته مشاعر متضاربة من عرفان بالجميل وحرمان منذ الطفولة واتهام الجميع له ولعناتهم عليه، فعقد لا شعوريا ما يشبه محاكمة فورية بحكم مسبق دون شهود سوى تلك الدماء. هل فعلها حقا، لِمَ فعلها، وكيف سيحيا وسط هذا الخزي والعار من فعلته إن كان الفاعل؟ سؤال بالتأكيد دار بخلده حينها كما ردده القاضي أثناء المحاكمة (هل تدرك ما أنت مقدم عليه بصمتك هذا؟ أتدري نهاية هذه المحاكمة؟). أسئلة دون إجابات شافية لعقله الواعي، وفراغ ذهني عن حقيقة خافية لا حيلة له في ابرازها أو التنصل منها، فالجميع مُغيَّب عقله عن الحقيقة كما قال القاضي (الريبة تصبح ستارا كبيرا يضرب على عقولنا جميعا).
رهاب الجلبة المربكة دفعه بقوة لأن يؤمن بالتهمة الموجهة إليه، أو ربما أراد الاحتفاظ بسرٍ أعظم لم يشعر بحاجة ملحة لإفشائه، فالتزم الصمت القسري.. صمت المعرفة، صمت إجابات غير معلنة، صمت عدم مبالاة بمصير قادم. صمت وُزِّع لا شعوريا بين الخوف من المجتمع والفاقة والرغبة في الموت طلبا للراحة من معاناته، وتحاشى التعبير عن رغبة مكبوتة لا يعلمها إلاه. بينما تغلب اللاشعور الجمعي على الآخرين، فنسوا أو تغافلوا أن (المتهم برئ حتى تثبت براءته)، فراحوا يسكبون على صابر الاتهام دون التفكر ولو لبرهة في احتمالية محاولته لإنقاذ القتيل أو ردع القاتل الحقيقي. لقد تغلب على عقولهم ما يرون من شواهد، وأقصوا ما عرفوه من خصال وأفعال حميدة عن صابر، فغلب العقل الواعي بظنونه وشكوكه العقل الباطن بحقائقه المكتسبة، وحاكمته ذواتهم الأبوية.
قيل (أن الذنب تحديدا هو ما ينتمي بجدارة للماضي)، و(أن أسوأ عدو للإنسان هي صورته الدونية عن نفسه، التي تدعوه باستمرار لتشويه ذاته أمام أقرب الناس إليه، إنه الذنب المغروس بعمق في هذه الشخصية). بالنص عاد الطفل البائس الذي كانه “صابر” إليه، ليشي بعجزه وحرمانه، ينكأ جرح يتمه، ويشير لذنب موت والديه الذي لم يكن له به صلة. طفله المتهم البريء الكامن بذاته غاص به في بحور الشفقة بماضيه وغابت بتلك اللحظة، فصفعه شعور بالدونية والانحطاط المتأصلان بنفسه (لم أسمع منذ أن ولجت طريق الشقاء هذا من يناديني ولدي)، (دخلت هذه الدنيا صعلوكا)، ووطد شعوره صديقه بالمحكمة (حياة عشناها وليست حياة كما يعرف الناس، أقرب للعيش على هامش الدنيا)، ونظرة الآخرين كاتهام “فتحية” (العجلة والخسة، شأن أبيك وعائلتك).
الإجماع على إلصاق التهمة بصابر خفض بنفسه الثقة ببراءته، وخلق حالة من توتر الوعي الذي أفسح الطريق لحالة من الإحباط وعدم الرغبة في المواجهة، وشعر بالاقتياد نحو التصديق بجُرمه، فانهار كلية، والتزم الصمت لإحساسه بفقدان سنده بالحياة (علمت أن حياتي بالمكان رهن بحياة الشيخ فكيف أقتله؟). تقلص وعيه، وسيطر اللاوعي المعذب، فارتضى بدور زائف (الجاني)، كأن الاعتراف بالجميل نحوهم قد احتله، وعزَّ عليه تقييد الواقعة ضد مجهول لعدم استراحة الشهود للأثر المفقود وغياب الفاعل، فأقرّ بذنب ماثل بأحداق أعرافهم صمتاً. يقول الراوي (من عجب أن لسان صابر ينطلق بكل قوته حينما يخلو بنفسه، لكن ينعقد عن الكلام إن هلّ عليه أحد، فيصيبه خرس يمنعه الرد على افتراءات نالت منه ومن سُمعته). هل كان الصمت سلاحا دفاعيا حين (قال لنفسه: أخيرا سأرتاح)، أم كما وصفه حارسه (صمتك سلاح جديد لخداع المحكمة)؟ تصدمنا إجابة (محاولة الإفلات من حبل وهمي يلتف حول عنقه يُلزمه الصمت مرغما).
كيف تحول صابر من (الغلباوي، لم أره إلا حجة على لسانه يقارع بها خصومه، لا يعترف بهزيمة، متقد الذكاء، يستنبط الدلالة) إلى شخص مستكين مكبل اللسان والوعي؟ فهو بسجنه (أتحدث بيني وبين نفسي لكن همسا، فإن علا صوتي لا يسمعه أحد)، (فإن علا صوته ينادي حارسه ينغلق كل شيء أمامه لا تخرج إلا حشرجات كميت).
الحوار الداخلي للمتهم يوضح الصراع النفسي بين ذاته الطفل القاصر وذاته الأبوية بسطوتها الرادعة، فتقول “القاصر” المعذبة بالدونية منذ سنوات يُتمه (كنت يوما مثلهم مشردا أبحث عن مأوى). تصدر “الأبوية” حكمها (قتلت كل أمل وأعليت من قدر الخيانة والغدر)، وتنفذه (ذاتي وجسدي يتمردان عليّ ويرفضان أن أشارك بمهزلة الهروب من الجريمة)، (رفض بعضي لما فعلته يداي). كذلك لعنات سكان بلدته وأفراد السلطة التشريعية والتنفيذية ورفقاء سجنه سلطوا ذواتهم الأبوية لتعاقبه، فيحاول الدفاع عن نفسه (أنتم أوهمتموني بهذا وأنا ساعدتكم بصمتي). بشاعة الاحساس برغبة الجميع في الخلاص منه (رأت أن القاتل يقف أمامها يتذرع بصمت وتحيط به أدلة اتهامه كحبل التف حول عنقه عقب وقوع الجريمة)، حتى رجال السلطة (هنأوا أنفسهم بقُرب الخلاص منه)، (اقترب المأمور وأحاط جيده بحبل معقود على شكل مشنقة صغيرة. هذه هديتنا إليك، آخر ما سيربطك بنا)، (بدا أن القاضي تعتمل بنفسه هواجس لم يُفصح عنها)، (فحكمت المحكمة بما أمامها من أدلة ثبوت قوية، لم تقف طويلا أمام سبب القتل ودافعه)، (سأله القاضي وقد تسرّب إليه الملل من تكرار شهادات الشهود). فشك صابر في براءته قائلا (غالبية الشهود عدول لا خصومة بيني وبين أي منهم، فلِمَ جميعهم يشهدون ضدي؟)
جاء اختيار “يناير” للعنوان- وهو أشد شهور الشتاء برودة- كرمز للافتقاد المفاجئ للشخصية الرئيسية للدفء الأبوي بعد مقتل من رعاه منذ سنوات يُتمه، “منتصف”- بصورة النكرة- (ويُعد بداية موسم ارتداء الشجر لخُضرتها التي نزعها عنوة الصقيع) إشارة رمزية لانتظار ظهور حقائق غائبة لأحداث تتكرر، وقد عزز الإهداء ذلك حينما وُجه (إلى كل من أقام حياته وشيّد مجده على وهم يراه صحيحا ويدافع عنه باستماتة).
قدم الكاتب لروايته بشهادته عن واقعة حقيقية عايشها طفلا (دونتها كما أعرف لم أزد أو أنقص)، مُعقباً (بعض تفصيلات صغيرة تاهت مني بتعاقب السنين فتخيلتها حتى تكتمل الصورة)، ووضح الغرض الأساسي (ما أردت أن أكتب قصة كي يقرأها الناس لكن سردا وتوثيقا لجريمة وقعت بالفعل).
تبادل الراوي والمتكلم سرد الأحداث التي طُرحت من خلال زمن الحدث وزمن مُعاش بتكرار المشهد من خلال رؤى وأحاسيس شخوص مختلفة الصلة بالمتهم، مما خدم الحبكة وتواتر الأحداث بذهن المتلقي، لتدفعه للبحث عن الحقيقة الغائبة. القفز بين الأماكن بسلاسة مع اختلاف أزمانها وظروفها ومواصفاتها وقاطنيها زاد من وعي المتلقي بحجم المأساة وملابسات الجريمة. فالمشاهد تنطق وكأنها نابضة بالحياة رغم زوالها، فتتحرك أمام القارئ كصور التقطها الذات الساردة، ويقبض عليها وعيها الإبداعي، مما حقق الدهشة وبلوغ الفكرة.
تكرار كلمة (قيل) أظهرت حيادية الذات الساردة القانونية التي فندت الأقوال والأفعال والأحاسيس البادية على الوجوه دون اصدار أحكام، وبرعت في تصوير أجواء المحاكمة وشخوصها- قاض، حاجب، نيابة تسوق (لنهاية محتومة وعقوبة غليظة)، محام (يؤدي دورًا إجرائيًا حتى لا تفسد المحاكمة)، (كاتب الجلسة يدوّن)، كما تم استخدام كلمات قانونية (شهود عدول) وغيرها.
اختلط السرد بالعديد من الموروثات المجتمعية ذات طابع ديني (كان يفيض علينا كرمه حتى نحس أن الفاقة أصابته من كثرة بذخه فإذا به يصبح أكثر ثراء من قبل)، (السماء لا تعاندني نكاية فيّ بل لحق بيّ سوء عملي)، (ربما يطهرني من رجز وإثم ربما ارتكبته). أو كقناعة مجتمعية (طرح اللقب هنا جانبا لا ينتقص من قدره فالأعلام لا تُلقب)، (فشديد البأس لا يلين إلا لمن هو أشد منه بأسا، ولا يلين العاقل إلا لمن يفوقه منطقا)، (كالحة باردة سوداء كقلب الكافر)، (إقامة العدل السريع البت ضمانة لاستمرار الحياة السليمة). أو كعادة متفشية بالمجتمع كالثأر (فجاءوا وراء الحقيقة وطلبا لحق أقرّه الشرع من قبل). أو كموروث ثقافي (من الكلمة والفكرة ما يفوق الزلازل في عنفها وقوتها)، (يختفي المنطق وراء الصوت العالي، فللطبل صوت أعلى بكثير من صوت القانون).
عرض السرد بعض مفاهيم متجذرة بالريف المصري مثل انتشار الأخبار والأقاويل بسرعة البرق، وبكون (الغريب كما اسمه لا وزن له)، تقديس القروي للظاهر من الأمور دون التدقيق في بواطنها حتى وإن كانت البواطن هي الأصدق، الاستعصام بالعُصبة (وخلفي عُصبة كبيرة إن ناديتها سيكون أولها هنا وآخرها في فناء منزلي بقريتي النائية)، الخوف من الجديد ورفض ما يخالف الهوى (إن كان حديثي لا يوافق هواكم ويخالف معتقدكم فارفضوه ولا تُعيروه اهتماما).
جاء الأسلوب سلسا رشيقا، يناسب مناخ الحدث ومكانه دون تعقيد، وإن لم يخلُ- رغم حِدّة المحتوى- من جمال لغوي على فترات سواء بتناص قرآني منها (وخلفي عُصبة، أطوف حوله أناء الليل وأطراف النهار) أو لإعادة صياغة مثل شعبي منها (لا تسكب وقوداً على اللهب المتصاعد في الأنفس). كما بدا جليا التأثر بالقاموس القرآني وأوامره ونواهيه (فكنت أطوف حوله أناء الليل وأطراف النهار)، (كأن على رأسه الطير). وإن شاب جمال السرد بعض الأخطاء المطبعية قد تُعيق فهم القارئ أحيانا أو تُشتت ذهنه عما توصل إليه من مضامين وربما شكّكته في قدرته على الاستيعاب لجهله بمعنى الكلمة.
تكرار مشهد الحدث وحوار “صابر” النفسي بصور وتعبيرات مختلفة بدءاً من التقديم وحتى النهاية- بدأ بمشهد مُجمل، ثم تدرج في التفاصيل حتى الذروة-، أكد معاناته واحساسه بالظلم بعدما خالف الشهود حُسن ظنه بهم لعلاقته الطيبة معهم منذ صغره وحتى يوم الحدث، فكان وما زال مجرد يتيم غريب قدم لبلدتهم. مما يُرسخ الحدث بذهن القارئ بنبرة تحذيرية من قانون يجعل من الصمت أكبر دليل إدانة، وربما يستدعيه لشهادة منطقية تنسف التهمة. إذا تتبع القارئ لحديث المتهم لنفسه ربما استطاع أن يصل للحقيقة (اندفاع الجميع، اعتقدنا جميعا، لم يدر بخلدنا أنه قُتل غيلة وعلى يد أقرب شخص إليه، إن تتهموني بالكُفر والخروج من الدين أهون عليّ من تلك الفرية، بعضهم يحملق فيّ كأنما يبحث عن إجابة شافية لفعلتي كما يزعمون، جريمة بتّ من كثرة شهود الإثبات مقتنعا أني ارتكبتها). من اللافت للنظر براعة الكاتب في تصوير الأحاسيس سواء أكان التمسها بالشخصية في حينه أم تخيلها لاستكمال الحدث الذي لم يعايشه.
أتت الخاتمة مفتوحة حيث رُفضت شهادة نفي متأخرة- من مجهول غائب- دون دليل مادي بعد انقضاء زمن الشهادة الفعلي وتنفيذ الحكم على متهم ينتظر البراءة لتطهير ذكراه من دنس أُلحق به، وتُرك الحكم النهائي للقارئ، وبالتأكيد سيختلف الحكم من قارئ لآخر حسب قناعاته.
يعتقد “بلزاك” أن الحياة مجموعة من الحالات الجزئية وكومة من الظروف التي يرتفع القصاص بها إلى الأجواء المثالية. وينبغي أن يختار الكاتب من بين تلك الحالات والظروف ما يصلح لأن يكون عناصر في بناء “الدراما” التي توجد في أعماق كل قصة. ويقول “نيتشه” ( إنني أوافق هؤلاء الذين يزعمون أن الزمان لا نهائي ولكنني لا أوافقهم على قولهم بأن الأحداث والوقائع الجزئية التي تجري فيه لا نهائية كذلك بل هي محدودة وتتكرر على الدوام). في منتصف يناير أجاد الكاتب التقاط الحدث، وأعاد صياغته بما تراءى لهدف أراد أن يشاركه المتلقي بالتحذير من الانقياد الأعمى خلف التقوّلات وإلقاء التهم جزافية دون دليل قطعي.
خاتمة
يقول “كريشنا ماروتي”: ما نكرره ليس هو الحقيقة، إنه كذبة، حين تكررون الحقيقة تتوقف عن كونها حقيقة. يقال كذلك (الحقيقة لا تكمن أبدا فيما نعرفه أو نراه، مما يدفع الناس إلى اصدار أحكام جاهزة على ما يرونه لا على ما يستسيغه العقل والمنطق).
تلك الرواية تدق ناقوس خطر يهدد الإنسانية بمجتمعات لا تُقيم الأدلة بالحق، وتكتفي بما ظهر دون التحقق من الدوافع وما بطن. من الجلي أن أهل تلك البلدة قد صادقوا (يقين الجهل) بما رأوا وسمعوا واستشعروا، وخاصموا إدراك (ما لم يُقال)، فجاءت شهادتهم بيقين (الشك العظيم)، وقد نجح “حمدون” بروايته في إرباك وإفزاع القارئ، كي يتنبه لأخطاء بعض السابقين والمعاصرين.. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرِ).
سعاد الزامك
20/2/2020

التعليقات مغلقة.