” دنيا صغيرة عالم كبير” …محمود حمدون
دنيا صغيرة عالم كبير
محمود حمدون
الناشر : مركز الحضارة العربية – القاهرة
المقهى عالم سحري , أعشقه حد الثمالة , حينما أذهب إليه , أستعد كمن ينوي أداء شعيرة دينية , أمارس طقوسًا لا أحيد عنها , تعجّبت بدوري مما أفعل , سخرت من نفسي : هكذا ألزمت نفسك بمنهج , أصبحت أسير مبدأ , تفر من المناهج حتى أن هروبك أضحى منهجاً و قيداً عليك ..
المقهى واسع من الداخل , رغم ضيق المدخل صُغر مساحته من الخارج ,يبدأ ضجيج الحياة به عندما تنحرف الشمس عن جادة الصواب , حينما يرهقها الانتظار بعليائها فتبحث عن غفوة قصيرة نحسبها ليلاً.
أختلف إليه يومياً , كفرض يدرك العابد أن تركه معصية كذا هو بيتي الثاني , عالم آخر , مجتمع صغير ينطلق دون هوادة عندما يغفل المجتمع الكبير عنه , أنموذج مصغّر يحوي كل صنف , ليست هناك شاردة أو واردة إلاّ و رأيتها بالمقهى .
يتهمني بعض الزملاء , بأن المكوث طويلاً بين روّاد المقهى نال من قيمتي , يهوي بيّ إلى عالم يرونه غير جدير بيّ أو بهم : الأفضل أن تنتسب لنادي من الأندية التي تنتشر بطول البلاد وعرضها , هناك يمكن أن تقضي وقتك و تملأ فراغك كما يمكن أن تتريض و تشبع هواياتك المختلفة .
أغبياء , يهمّهم المظاهر فقط , فالانتماء للجمع غاية لا يدركها إلاّ العقلاء .
وقفت على باب المقهى , باحثاً عن الرفاق , حينما دلفت أول مرة من عتبته تذكّرت مقولة صوفية : الخروج من الضيق إلى الوسع, ألتقي بضع نفر من الناس , لم أعرفهم من قبل باستثناء ” مينا ” صديق الطفولة , ساعدي الأيمن في المعرفة , تلك التي تشمل درجات متعددة و متباينة , جميعها يقوم على ردم فجوة الوهم بداخلنا .
شاحب الوجه , شديد البياض , نحيل , شعره خفيف يتطاير على جبينه , تجمعنا تلك النظرة الممزوجة بالجرأة, أطلعته على بعض مما أعلم , بدوره أعلمني بكثير مما يعرف , فإن التقينا صبيحة الأحد نسير بوجل , نتحدث همساً , نكتم الضحك بداخلنا , فلا يفضح الصبية إلاّ رنّات ضحكاتهم الصاخبة.
نلتقي صبيحة الأحد من كل أسبوع, نذهب سويّاً لكنيسة صغيرة , درس ديني أحرص عليه , لا أذكر متى التزمت بالذهاب معه , كما أنكر أنه أجبرني على ذلك , شغفي دافعي الأكبر , أصبح نهجًا يقيّدني و مبدأ يدفعني دفعًا لطريق و مسارات كثيرة .
عشية نفس اليوم لنا غزوة بمكان آخر ناء , حينما تتلقي الرذيلة مع النزوة , وكر تتوارى فيه القيم المجتمعية جانبًا , يسرق فيه روّاد المكان شعلة اللذة , يحيط بهم خوف الكشف , عبث الفضيحة إن رآهم الناس , راقصات من الدرجة الثالثة كما يقولون , الفعل الرسمي رقص و مرح بينما الحقيقة مجون ونشوة حارقة .
—
= أتعرف معنى اسم ” مينا ” ؟
بعيداً عن تاريخ مصر القديم , لا أظن أن أبي الراحل , كان يعرف شيئاً عن الملك ” مينا – نارمر أو نعرمر ” موحّد القطرين , و بعيدًا عن سخريتك اللاذعة يا صديقي , فكلها أسماء , فإن استبدلتها برموز أو أرقام في النهاية لا معنى لها .. فلا قيمة لاسمي , و لا معنى لإسمك ” مصطفى ” ثم لا تنسى انك تدخل كنيستنا صبيحة يوم الأحد من كل أسبوع باسم حركي مصطنع , فعرفوك هناك بهذا الاسم ..
قلت : يا عزيزي لا داعي لهذه المحاضرة , لا أقصد إساءة , مجرد ” دردشة “, كما أن مواظبتي على حضور دروس الأحد صباحًا هو بوازع من شغف داخلي , يدفعني للانغماس حتى أذني في كل جديد.
= يوم ستدفع ثمن شغفك هذا , حياتك أو حريّتك على الأقل , فاحذر فالقوم هنا و أشار لأهله و هناك و أشار للغالبية لا يحبون الاقتراب من ثوابتهم.
رددت بسرعة , بلهجة غاضبة : أكره كلمة الحذر و ما اشتق منها , ما دفعني أن أسلُك تلك الطرق إلاّ حربًا ضروسًا أعلنتها منذ صباي على الحذر , ألاّ أكون قطعة من “صلصال ” , يشكّلها المجتمع على مزاجه..
مينا: ما أشجعك , أراك مثالاً أعجز عن بلوغه , أحكي لأصدقائي عنك بحرص , وأقرأ في عيونهم كراهية لك , ليس لأنك لست من ديننا , لكن لتلك الثورة التي تعلنها بقوة على القوالب التي حشرنا أنفسنا بداخلها طوعًا.
قلت :هل تجد فيما أفعل صبيحة كل ” أحد ” مغامرة ؟
= نعم , بصدق , تعلم كراهيتي للقسم و الحلفان , ما تفعله يشدني إليك , أجدك مقدامًا , بعينيك بريق , يخيفني أحيانًا , أتعرف ؟ يراك بعض الناس , مجنونًا , يستريبون فيك .
قاطعته : لمَ ؟ لا أؤذي أحدًا .! مجرد شغف و حب معرفة أسعى وراءها.
بان ضيق في عينيه : ما تفعله يؤرقني , لم أفكر يومًا مثلك , ولا أعلم لمَ تلك التقسيمات و الطقوس و الشعائر ؟!!, فالأمر كما تقول أنت بسيط لا يتطلب ذلك , أتعرف مرة أخرى؟ .. تحدثت مع بعض رجال الدين عن ذلك , فرأيت تعنيفًا في العيون , علت لهجة الوعيد بشدة , المروق و التجديف في العقيدة ملاذ أخير لمن يفكر في الخروج الثوابت …
= لكنها ليست ثوابت , فهي من اختراعهم , كل فصيل يرى ما يعزز رأيه و يوطّد مُلكه .
-صدقت , توخ الحذر يا صديقي , فالقوم يأتمرون بك هنا و هناك , الجميع ينظرون إليك كعدو شرس يتربص بهم كما يتأهبون دومًا لقتاله .
= لله الأمر من قبل و من بعد .. فالحذر لا يغني عن وقوع القدر .
التعليقات مغلقة.