ذنب الحالم بقلم /خالد العجماوي
لم يعد أحد يحلم في قريتنا. كأن الأحلام قد نضبت فلا تكاد تصل إلى أخيلة النائمين. كان ذلك منذ زمن ليس بيسير، ربما منذ جيل أوجيلين. حيث تبدلت الوجوه فصارت واجمة، كأنها منحوتة من حجر، أو كأن الشفتين قد نسيتا معنى البسمة وتعابير الفرح. أنا لا أذكر أني حلمت يوما. يقولون إنه بالأحلام أستطيع أن أرى أمي، والتي لم أرها طوال سني العشرين. أذكر أن جدي حكى لي مرة إنه وجد نفسه يطير فوق منزلنا. وقتها لمعت عيناه وابتسم للحظة، ثم رجع إلى ملامحه الصخرية وهو يأمرني ألا أخبر أحدا، فلو كان قد نما إلى كبيرنا “الحقاني” ما حكاه جدي فلم يكن ليسلم قط. ربما عنفه وزجره. بل وربما أمر فحكم على جدي بأنه من المجدفين. والحق أن كبيرنا كان يهتم لأمر القرية. قال إن الأحلام من الشيطان، وإنها من ذهاب العقل وزوال الحكمة، كما قال إنه الواقع وكفى ما نحتاجه كي ينمو العمل، فتستمر حيواتنا وتزيد غلالنا وما نجنيه من محاصيل. كان يرى أن الأحلام صنف من صنوف الكذب، وأنه لا مكان للكذب إن أردنا أن نعيش قوة ذات بأس وكرامة. ولأجل ذلك فقد عين لديه مساعدا كالوزير؛ يكشف له الرجل الكاذب من نظرة عينه، فإن حكم بكذب رجل أو امرأة، حكم عليه الكبير “الحقاني” بما يتراءى له من العقاب. لم يخطيء ذلك الرجل قط، كان يكشف الكذاب من عينيه، حتى عرفته قريتنا باسم أفردته له وحده “الكشّاف”.
ولكن كيف نضبت الأحلام؟ هل هو الخوف من “الكشاف”؟ هل وضع الخوف يده على منابع الأحلام فجففها قبل أن تشق في النفوس مجراها؟
ولكن ورغم جبروت الخوف وسطوته، إلا أنه لم يقدر على شعور أهل القرية بالفضول، والرغبة في تداول الممنوع، في جوف الليل، حيث يفر بعض من خيالهم من محبس النهار، ومن عيون “الكشاف” وأحكام “الحقاني” الكبير.
سمعوا أن ثمة من يزعم أنه يحلم، وأنه يمارس الأحلام منذ سنين، وأنه يجالس بعضهم في جيوب الليل البهيم، فيحكي لهم ما قد حلم به بالأمس، على أن يعدهم بأن يجتمع معهم في غده، فيدر عليهم خيالاته وأحلامه. كانوا يخرجون من عنده وفي قلوبهم وجل من أثر الذهول والدهشة، كما كانت في عيونهم لمعة، وبعض ابتسام.
كان أمره سرا يكاد يكون شائعة لا حقيقة. خبر بدأ كنطفة تخلقت في أرحام الظلمة، ثم نمت رويدا رويدا حتى صارت حقيقة يتداولونها حين سدول الليل، وينكرونها مع أنوار النهار.
ذهبت إليه. عيناه لامعة، وجهه نحيل، ولحيته سارحة.
لا تسلني من أوصلني إليه، ولا كيف رحت. ولكن سلني عن الدهشة، عن الحيرة، عن الذهول والارتباك كلما حكى وسرد. كم من مرة انتبهت على فمي منفرجا كأبله، ولعابي يسيل وقد نسيت أن أبلع ريقي.
ثم ذهبت إليه أخرى، مرات ومرات. كان وحده الخوف متربعا في النفوس، ثم وجد كائنا جديدا يريد أن يأخذ مكانه. شيء يشبه الوله، ويسمونه الخيال والجموح. كانوا يطرقون برؤوسهم بين يديه، ويبكون، ويطلقون الزفرات، ويذكرون له أحلامهم كأنها اعترافات. كانوا يقبلون يديه، ويعترفون أنه لولاه لما عرفت أحلامهم طريق النور، ولا أدركت أخيلتهم معنى الوجود.
اقتربت منه، وأطرقت برأسي، وبكيت:
- رأيت أمي بالأمس. احتضنتني بين ذراعيها وحملتني نحو السحب.
مسح على رأسي، وهو يرفع وجهي كي أواجه عينيه: - وستراها غدا..وبعد غد..لم يعد بينكما حجاب..
- صرت أطير!
- مبارك لك الأحلام!
- هل أذنبت؟
- أذنبت في عرف “الكشاف” وعند قانون “الحقاني” ..ولكنك بالنسبة لأمك، فإنك أخيرا وصلت!
شعرت بغصة في نفسي..كأنها وكزة حادة نبتت في جنبات صدري.
تركته وذهبت، ثم سمعت جلبة من حيث تركته هناك. دخلوا عليه، وقيدوه ، ثم أخرجوه ليواجه السماء بجسد عار. تفسخ الليل، وحضر النهار ومعه سياط من لهيب الشمس، وحضر “الحقاني” وسط حاشية من الجموع. وخلفه كان “الكشاف” يتفرس فيه كذئب ينوي الانقضاض، أخذ يتفرس في وجهه النحيل، ولحيته السارحة. تواجهت العيون كما الفرسان في المعارك. عيناهما تحملان بريقا حادا، بريقا كنصول السيوف. أطرق “الكشاف” رأسه، ثم استدار نحو “الحقاني” وقد احمرت عيناه كالدم. لم نره بعدها. اختفى ذلك الذي حرر فينا الجموح، وألهم خيالاتنا الحرية. وشعرت بغصة في نفسي ووكزة.
ظللت أمارس الأحلام. طرت فوق السحب، وسبحت فوق الموج، ورأيت أمي، بيد أنها كانت حزينة، كأنها تبكي، أو تعاتبني، ثم تلكزني في جنبات صدري. لم يا أمي؟ هل أذنبت؟ حين كنت أسألها كنت أصحو. لم يبلغ الحلم حد الجواب قط. كنا وبعضهم نجتمع في الخفاء، حين يجن الليل، فنتحاكى عن أحلامنا، فنمارس معا معاني الدهشة والجموح. الغريب أن جميعهم رأوه، إلا أنا! كلهم حكوا أنه ذهب إليهم وذهبوا إليه..وأنهم بكوا بين يديه. ولكنه بالنسبة إلي لم يزرني ولا مرة. فقط كنت أسمع أنينه. ضعيفا خافتا يتهادى. لماذا أيها الحالم؟ هل أذنبت؟ استشعرت غصة ووكزة.
التعليقات مغلقة.