رؤية تذوقية للأستاذ محمد كمال سالم في خاطرة الأديبة منى عز الدين : السفر الأخير
يقول الأستاذ محمد كمال سالم
لا أدعي الخبرة الأدبية، ولا المعرفة بأسرارها وأصولها، فهذه أكاديمية.
ولكني أستطيع تذوق الكلمة، طلاوتها، طعمها المُر، والحلو، أعرف من أي مكان في جوارح من كتبها خرجت.
ومعي اليوم، خاطرة لأديبة، الحرف صنعتها، بل هي أديبة تُسرف في انفعالاتها، في مفرداتها، في توكيدها المعنى، كمغنٍّ صوته عذب، فيعزبك ببديع عُربه، كعازف ماهر يعرف سر قيثارته، يختار الثيمة والمقام المناسبين ليعمق التأثير.
إليكم تلك الخاطرة للأستاذة منى عز الدين…
السفر الأخير
لم أكن أعلم حين جهزت حقيبة السفر؛
أنها ستلتصق بيدي لاتفارقها؛ ولم أكن أعلم أنني دخلت بقدمي في متاهات متداخلة من زمان ومكان وأشخاص وتجارب .
لم يكن في بالي عندما وصفتها بالحجر يومها أن تنقل
أحجارها إلى داخلي لتكمل بناءها الصخري
لبنة لبنة مع كل منعطف
لم أكن أعلم
أنني سأنحني مرارا وتكرارا لأعيد ترتيبها حتى لاينوء كتفي بحملها الثقيل؛ تارة أخرج منها دمعة لأضع عوضا عنها خيبة،
وتارة أخرج طموحا لأفرد مكانه سرابا.
لم أكن أعلم
أنه بات من حق الغرباء رفاق الطريق أن يدسوا فيها شيئا كلما فتحتها أمامهم، أحيانا كنت أبحث عن ضحكة منسية في زاويتها من زمن الضحك الجميل ، وأحيانا أبحث عن دمعة علهم يجففونها فقد بللت معطف الصبر وبات باردا حين ألتحف به وقت الأصيل
لم يكن في نيتي
أن أجعل منها معرضا سخيفا للأحزان، ولا مسرحا للفكاهة
ولا كتفاً ضعيفا للتربيت ،بل كانت هذه عادة من أيام سفر الصغر حيث كنا نتشارك مافي الحقائب لنصنع لرحلتنا ثوب متعة جميل
لم أكن أعلم
أنني من كل محطة سفر سأغادر بحمل في الحقيبة ثقيل ، ليتني ماأكثرت من تلك المحطات؛ هاهي هامة الروح تنحني ولكن طريقي طويل .
إذن فليكن السفر الأخير
وعندما فتحت حقيبتي لأحدد الوجهة ، وجدت كل أشيائي ، دمعةً وضحكةً صفراء ، أملاً يصارع الألم ، وشعاع طموح يقارع الظلمة على مشارف الروح ، وجدت كل شيء إلا نفسي
فأعلنت إليها ( السفر الأخير )
أوراقعلىقارعة الروح
مجموعةقصصية يتخللها خواطر
رؤية الأستاذ محمد كمال سالم
انظروا كيف تناولت الفكرة، وكيف عبرت عنها؟
ليست مجرد فكرة عابرة، عبرت عنها بصيغة أدبية، بل هي نزف لمعاناة، وجُرح طال واتسع حتى راح يمد ويقيح، وراح ينزف الكلمات.
انظر كيف عمِلَت على توضيح الصورة وتأكيد المعنى حتى يصل للمتلقي بآلية تلقائية بسيطة ومعجزة:
لم أكن أعلم لم أكن اعلم
ما كان في نيتي لم أكن أعلم
وكأنك تراها في محطة قطار، أو ميناء بحري أو جوي، تجلس فوق حقيبتها، يدها على خدها، لا تدري أين الوجهة القادمة، حقيبة متاعها الحيرة، وفي أركانها انكسارات ودموع.
هكذا هي منى عز الدين، يذكرني قلمها بألحان الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب، كان يختار أكثر جملة موسيقية مؤثرة بالأغنية، ثم يمعن في تعميقها وتكرارها، ويحفظها للمستمع حتى تستقر في وجدانه، وتظل تلح وتطن في أذنيه لوقت طويل، لهذا تحسبت أم كلثوم كثيرا حتى غنت من ألحانه.
هذه رؤيتي وذائقتي التي أثق بها، ماهي بدراسة ولا رؤية نقدية، فلست بناقد.
تحية مودة وتقدير لقلمها السامق شديد الحس, تلك الأديبة الإنسانة.
التعليقات مغلقة.