رؤية نقدية للدكتور شاكر السلمان في قصيدة “عروبتي ” للدكتورة ريهان القمري
عروبتي شعر : د. ريهان القمري
أحمــال قلبي كالجبــال يراهـــا
كـلُّ الأناسِ كــريشةٍ وهواهــــا
أقسمتُ ألا أشتكي حِمــلا طغى
فوق الضلوعِ مزلزلا أعــلاها
و الآه مني لن تروهــا دمعــــة
الآه مني غنـــوةٌ وصــــــداها
إن النســـاءَ جميعَهـــن عباءتي
وكرامتي فوقَ الجبينِ ضيــاها
إني الرجالُ جميعهم، بل كلـهم
وصلابتي تخشى الصخورُ حصاها
والكـــل بعـــدي فاقـدٌ أضواءه
متسائلا: “أين الذي أخفــاها ؟”
تتساءلون عن الظلامِ بحيـــكم؟
ذاب السنا بعشِيَّةٍ وضحاها !!!
إني الحياةُ و كنت أحيا بينكــم
لكنكــم لم تفهمـــوا معناهـــا
سيروا كما أنتم ولا تتذكـــروا
أختا لكــم دعس اللئيمُ رُباهـــا
قـُدسيتي في كـــل دين تنتمون
فريضة، والوغدُ من ينساهـــا
وعــــروبتي درٌ يزين عباءتي
ســأقولها: ” قدس أنا، أتباهى”
٤-٧-٢٠٢١
الرؤية النقدية للدكتور شاكر السلمان
الشاعرة ريهان القمري صيدلانية من مصر العروبة
واختارت العنوان (عروبتي)
لذلك سيظن المتلقي أن الشاعرة تتكلم عن عروبتها أو عروبة مصر بلدها الذي تنتمي اليه، ولكن ما أن ينهي القارئ تلاوة القصيدة والتمعن فيها يجد نفسه أمام المتكلم عن العروبة ويفاجأ بأن الشاعرة في كل ما تقدم كانت تحكي بلسان حال القدس.
القصيدة من البحر الكامل
وزنه:
مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن *** مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن
ومفتاحه:
كمُل الجمال من البحور الكامل *** مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن
نبدأ بالعنوان
عروبتي
وكلمة العروبة لها شأنٌ عظيم فهي تنتمي لقدسية القرآن الذي نزل بها (إنا أنزلناه قرآناً عربياً) ولها معاني أخرى وهي النقاوة وكأنها تعني بعروبتي (نقاوتي) … تماشياً مع بعض علماء اللغة وهم يفسرون (قرآناً عربياً) بمعنى نقياً..
ومن مكانة هذه العظمة في العروبة تتكلم القدس عن نفسها، أما الشاعرة القمرية فقد أجادت في رسم الصورة وأطرت القصيدة بعدة ألوان وأعطتها صوراً وزوايا شتى فالناظر والقارئ سيرى الصورة من زاويته التي هو فيها، بما فيهم أنا الناقد الذي احتار من أي زاوية أصف فعندي القصيدة ثلاثية الأبعاد وكلها أفانين لغوية وزهرات ضادية تبرق في كل الإتجاهات.
أحمــال قلبي كالجبــال يراهـــا
كـلُّ الأناسِ كــريشةٍ وهواهــــا
فالأحمال هي الأثقال واتخذت الشاعرة من التضاد سمفونية جمال لاترى في مقياس العين المجردة فقد مزجت الحملين معاً في عين الرائي، القلب ينوء بحملها والناس تراه كوزن الريشة. فكان التضاد مموسقاً بحركة الريشة في الهواء وثبات الجبال برسوخها.
أقسمتُ ألا أشتكي حِمــلا طغى
فوق الضلوعِ مزلزلا أعــلاها
القسم هذا على لسان حال القدس حين انتقلت الشاعرة الى الرموز والمجازات لتتجلى فيما بعد بتشكيل الصور والرسوم الفنية المراد بيانها فهي ليس من الخطوط وإنما من كلمات القصيدة وإيحاءها. فحين يجثم الحمل بثقله على الضلوع فلابد من حدوث شيء جلل يزلزل أعلاها، والزلزلة هنا في اللغة هي كلمة اهتزازية مكونة من حرفين متشابهين (زل – زل) ولها شبيهات في القرآن ( دمدم. عسعس، حصحص، وغيرها الكثير).
و الآه مني لن تروهــا دمعــــة
الآه مني غنـــوةٌ وصــــــداها
التَّأَوُّهِ : مِنَ التَّوَجُّعِ، مِنَ التَّشَكِّي وغالباً ما تبررها وتشي بها (الدمعة) إلا أن الشاعرة وعلى لسان حال القدس بعبقريتها أرادت عكس الصورة في مرآتنا لتحولها من دمعة الى غنوة وهذه من غوايات الشعر ومكنوناته اللغوية وأسرار الجمال فيه ناهيكم عن فعل الوتر الممغنج وصدى الناي المرادف له.
إن النســـاءَ جميعَهـــن عباءتي
وكرامتي فوقَ الجبينِ ضيــاها
إني الرجالُ جميعهم، بل كلـهم
وصلابتي تخشى الصخورُ حصاها
وبمحاكاة للقمرية تتمثل في تكرير الحركات لتؤدي دوراً دلالياً للغة، حين توحي على لسان القدس بأن النساء هي عباءتها وكذلك الرجال فأعطت ميزتين مبطنتين ينضحن معنيين مترادفين حين دمجت الكرامة بعد النساء والصلابة بعد الرجال وهذه الفذلكة ليست للتلاعب بالكلمات وإنما لتكون الفصل في القول كما تؤكد ذلك في قولها:
والكـــل بعـــدي فاقـدٌ أضواءه
متسائلا: “أين الذي أخفــاها ؟”
تتساءلون عن الظلامِ بحيـــكم؟
ذاب السنا بعشِيَّةٍ وضحاها !!!
الكمية الصوتية في هذا المقطع تتمثل في (تتساءلون) حيث برقت عن أكبر كم صوتي فأعطى البعد الجوهري لفضاءه والجرس المصاغ منه لحّن المدى مما دفعنا الى التأمل في القيمة الزمنية في اجتذاب الحس للملل الذي عانته القدس تحت وطأة المحتل حين تشي بذوبان السنا واختفاءه مقرنة المثل السائد ( بين عشية وضحاها) وكما يقول الشاعر أحمد محرم:
(أسفي عليك ذهبت غير مودع
ومضيت بين عشية ونهار )
ثم تؤكد الشاعرة للتذكير والتأنيب فتقول:
إني الحياةُ و كنت أحيا بينكــم
لكنكــم لم تفهمـــوا معناهـــا
سيروا كما أنتم ولا تتذكـــروا
أختا لكــم دعس اللئيمُ رُباهـــا
حين تكون المشاعر مخصوصة فهي بالتأكيد تتموسق بوترٍ ينبض داخل النص كما للنجوم نبضات وهاهي مترجمة لطعنات نُتّهم بعدم فهمها أو فهم معناها، ثم تتجلى لغة الشاعرة بيقينها فتصيب أجناس الإيقاع لتختلس نبراتها في الإشارة للقادة الذين أعمتهم كراسيهم فأصموا آذانهم فعميت القلوب التي في الصدور قبل الأبصار فما عادت أن تتذكر تلك الأخت التي نعتها الشاعرة حين داس الغزاة على رباها ومكث في أرضها وجثم على صدرها.
قـُدسيتي في كـــل دين تنتمون
فريضة، والوغدُ من ينساهـــا
وهنا التناغم الشكلي في بنية المفردات (قدسيتي) وهي تجلو خاصية التناقض الداخلي في ظواهر الأديان المتوالية في حياة القدس لتبني في لغتها أساساً متيناً لتنبو فاعلية النبر بانزياحات ايقاعية تتواصل بهمهمة الوزن فتخلق صورةً مرئيةً من حالة النسيان كما يؤكده حاضرها.
وعــــروبتي درٌ يزين عباءتي
سـأقولها: “قدس أنا، أتباهى”
لمحة تاريخية:
“عروبة القدس تضرب في أعماق التاريخ لأكثر من ستين قرناً.. حيث بناها العرب البيوسيون في الألف الرابع قبل الميلاد، أي قبل عصر أبي الأنبياء إبراهيم – عليه السلام – بواحد وعشرين قرناً.. وقبل ظهور اليهودية التي هي شريعة موسى -عليه السلام- بسبعة وعشرين قرنا”.
وأن “شريعة موسى – عليه السلام – وتوراته قد ظهرت بمصر، الناطقة باللغة الهيروغليفية قبل دخول بني إسرائيل غزاة إلى أرض كنعان، وقبل تبلور اللغة العبرية بأكثر من مئة عام، ومن ثم فلا علاقة لليهودية ولا العبرانية بالقدس ولا بفلسطين”.
لذلك نطقت الشاعرة المتفوهة بدرِّ زينتها لتعلن على الملأ التباهي بحروف ألف لام قاف دال سين.
ملئت نفسي ياريهان إعجاباً وشغفاً بما في قصيدك من المعاني الدقيقة والقيم الفنية الأصيلة.
شاكر السلمان
في الثاني والعشرين من تشرين الثاني 2023 م
التعليقات مغلقة.