رجل ملقى على قارعة الطريق
بقلم الفاتح ميكا
( لا تساوم؛ لم يعد في الساحة الا وجهك المنحوت من صخر الهزائم
مصطفى سند.)
كان رجلا محترما وأمينا لدرجة تثير المخاوف والحسد..! لفظه البنك الذي كان يعمل به لأكثر من ثلاثين عاما من أجل الصالح العام.؛ وظل يركض كالحصان الجريح للحصول على حقوقه حتى حفيت أقدامه
خرج من البنك مهزوما ولا يدري أين يذهب بكل ذلك الإحباط… ؛؛ اسلم جسده المتهالك لخطواته وظل يمشي… ويمشي.. واهنا وتعبا وحزينا يخوص في تعاسته.؛؛ وبرغم بشاعة موته المتحرك كان لا يثير دهشة احد.. ! ولا يجذب اي شفقة….؛؛ . المدينة بكاملها متخمة بالظلم. ! عيناه محمرتان ولونه الشاحب غن بداية هلاكه.؛ لقد صبت عليه الحياة كل غضبها فتحول إلى فقاعة تحوم تحوم في شوارع المدينة.؛؛ ومن شدة التعب وفداحة المحنة وجحيم التفكير المضني بدأ يتداعى و ينهار على رصيف شارع تم تحديثه ورصفه بعناية.؛؛ وفيما يشبه السقوط نزلت ركبتاه للأرض ولامست مؤخرته الرصيف المصقول وهو في غاية الضعف والهوان. ؛؛ خلع حذائه.؛؛ دلك قدميه الَمعفرتين.. المتعبتين.. ؛؛ وتمدد واسند راسه على ذراعيه. ؛؛ تحركت شفتاه عن ابتسامة ساخرة ومريرة. ؛؛ صداع في مؤخرة راسه وعموده الفقري يكاد أن ينشطر…
وكانت هناك ثمة دموع مالحة تنحدر نحو خديه. ؛ ؛ وهو يدير وجهه باتجاه السماء
كان النهار في أقصى عنفوانه….
والشمس تنهمر على الناس والأشياء بسخاء قاس. ؛؛. وتتخلل عروق المدينة….. ؛؛؛؛ المدينة التي طالما احبها.. والتي اعتصبت مرارا.. وكان أكثر المغتصبين تباهبا.. وتبجحا.. بأنه لم يرق قطرة دم واحدة من دمها عندما هتك عذريتها وتاريخها. !!! كان اغتصابا نظيفا وخال من الإدانة. !!! برغم كثرة الشهود.!
عيناه تلفان و تدوران في الشارع. ؛؛ كلما ما يملك في رقدته المهينة التحديق.. وهو ممدود على الرصيف كقارب مثقوب ضل طريقه في الوحل…!
بلغ به التعب منتهاه
وأسوأ أنواع العذاب عندما تهضم حقوقك جهرا.! وحين. يكون الموت بالقطاعي وتتحول الثانية إلى دهر.. فالموت دفعة واحدة لايشفي الغليل.. ينبغي أن تقهر… كل عضو على حدة.. وببطء شديد… ثم تفرغ من كل الصفات الإنسانية.. الكرامة.؛؛ الكبرياء؛؛ العواطف.؛؛ و… و…. و…! ويتم صياغتك من جديد وفقا لشروط المرحلة…..!
ثلاثون عاما من الوفاء والعطاء.؛؛ ونهاية الخدمة ركلة موجعة للشارع.. ثلاثون حصادها وعود مجرد وعود… وعود تتناسل وتتسابق كالحيوان المنوي المشوه الذي لا يستطيع اخصاب بويضة صالحة.! ضاقت به الحياة حتى أصبح أولاده إطارا لا يتبدل من الفقر والظلم وعود باستلام حقوقه.. وعود أكلت صبره واسَستهلكت طاقته وألقت بظلالها المجحفة على زوجته وحالت دون تواصله الانساني…… !!
الرصيف الصلب ينهش اضلعه….
عضلاته تختلج من شدة الصداع النصفي الحاد. ؛. عموده الفقري يتقلص.. ا وأنه يمووووووت…! ولا أحد يدهش لموته العلني في وضح النهار. ! وفي الشارع المزدحم تحسس وجهة باصابعه الضامرة اقفل عينيه. ؛؛ ثم عاد و فتحهما على الشارع.. وعلى اليأس والظلم الممتد على مد البصر ؛ احس بقلبه يتأكل… عندما تجمهرت صورة اولاده أمامه….؛؛ وتاجيله المستمر لمتطلباتهم الضرورية… الديون تحاصره كالسرطان… وفي كل يوم يعود لهم مثقلا بالوعود والأحلام الزائفة….؛؛ ويبذل أقصى جهده ليخفي عنهم آثار الذل… وسياط الظلم.. وأدرك أن الظلم هو الوجه الآخر للموت….. ؛ ويحولك إلى جثة تهيم في الطرقات تتوسل الدفن. !
يغمض عينيه من الهوان. ويفتحها بصعوبة.. تتداخل الصور أمامه.؛؛ زوجته ترفع نحوه عينين حزينتين تضج فيهما الدموع وبرغم ضعفها تمده بالقوة.. والصبر وعدم اليأس وفي كل يوم تودعة على عتبة الباب تزداد حدقتاه من الفقر والدموع. ؛؛؛. تمسح وجهها بيديها اللتين أصبحنا رطبتبن من البكاء.؛ والشحوب يتفاقم في ملامحها…؛؛ لا تيأس.. لا تيأس.. فنحن لا نملك من بعد الله الا انت ( اوثقوه بالظلم واجبروه أن يتاخى معه حتى إشعار آخر. )
مازال النهار يواصل هبوطه مرتابا على المدينة
عيناه تلهثان وهو مسجى على رصيف الشارع.. الصداع يكاد أن يطيح برأسه.. والألم يسري في كل جسده.. لم تفارق عقله كلمة . الصالح العام. والتي اقتلعته من جذوره وألقت به في الشارع العام بلاحقوق.. وفرضت على عائلته التشرد.. وظل يهذى بكلمه الصالح العام… ؛؛ تسلقت وجهه ابتسامة كالصرخة. ؛؛ و ارتعدت. مفاصيله وهو يحاول النهوض. ؛؛. جسد منهك.. وعينان
مثقلتان بالعجز واليأس وشرعت الشمس في طرد الظل الضئيل الذي كان يستره وكشفت انهياره. ؛؛. زم شفتيه الناشفتين المهدلتين وتجعد وجهه من لزوجة العرق وشدة الحرارة ووقعت عيناه على برميل القمامة الذي يتوسط في سفور وتبرج نتن…..!
اتسعت حدقتاه من فرط الذهول.. !!
عيناه كانتا مثبتتين ومفتوحتبن على سعتيهما على برميل النفايات المحتشد بالذباب وبمجموعة من الأطفال في عراك مميت.. وتلاحم وحشي.. وسباق محموم. ؛؛؛ يخوضون في أحشاء البرميل القذرة.. ويتصارعون على الفتات و ما تتجشاه المطاعم المحيطة بالشارع.؛؛ كانوا متشابهين في الفقر. والجوع.. والبؤس.. تتطاير من أفواههم الجائعة الألفاظ النابية في سخط وضجر. أطفال من كل القبائل.. أطفال بلون الزبد.. بلون الفحم.. بلون القطن.. بلون البن. ؛؛ اجسادهم النحيَلة استمدت صلابتها من الشمس والهجير.. والنوم في مجاري المياه وباطن الأرض مع الحشرات والحيوانات الضالة فاكتسبت مناعة مذهلة على الصمود…!
عيناه مسمرتان على عناق الفقر
وعلى الأجساد المشحونة بالفافة واليتم وفقدان الهوية..؛؛ بصره مازال معلقا في صراع البقاء المخيف.؛؛ كانوا ينصهرون في بعضهم من شدة الالتحام والصراع وانتزاع الفتات.. حفاة شبه عراة.. يتارجحون ما بين الموت والحياة. ؛؛ وصراخ وجوع كافر ثائر جعل الكلاب والقطط تتوجس خيفة وفزعا وتنكمش مبتعدة… !
أحس بقلبه ينفطر..
للبلاء الذي عصف بالمدينة.. رللفقر الذي يشق عنان السماء.. وللبراة الغليظة التي تشيخ وتموت قبل أوانها.. وخارج مظلة الرعاية والضمان الاجتماعي.. وقال في نفسه : حين تموت البراءة تظهر الجريمة.. وعندما يستفخل الجوع يبدأ العنف
كان ينظر للشارع بحسرة…….
لا تيأس.. لابد من النهوض ومعاودة الحياة.. جسده الذابل مثبت على الرصيف كأنه دق بمسمار صلد… اشتدد علية وطأة الأحزان.؛ ورصيف الشارع القاسي يسحق عموده الفقري ويجمد الدم في عروقه ويضاعف ألمه كل أطرافه لا تقوى على الحراك والتعب شل حركته اشتعلت في ذاكرته صورة أبنائه.. فارتج جسده وانتفض حتى أوشك أن يتوراى تحت الرصيف..
وفي رقدته المزرية تلك اجتاحت الشارع موجة من الرعب العام.. واختلط الحابل بالنابل.. صراخ في كل الاتجاهات.. الجميع يركضون.. الأعمى والبصير.. الشحاد.. والنشال.. والمحتال.. وبائعات الشاي.. وأطفال القمامة.. ومجنون يصرخ في هلع. الكشة.. الكشة.. ولاحت في الأفق عربية البلدية.. أو بمعنى أدق لوري البلدية.. وشرع رجالها الغلاظ في جمع النفايات البشرية وغيرها كان ممدودا بجسده الهزيل على رصيف الشارع تغزو عينيه ملحمة الرعب الجماعي.. ركبتاه متيبستان لا يقوى على النهوض من التعب والمفاجاة.. فاغمض عينيه كالمحكوم عليه بالإعدام حتى لايرى وجه جلاده ويلفظ أنفاسه الأخيرة من غير رؤية.؛؛ ووصلت إلى أذنيه. عبارة أن هناك أحد الضيوف الأجانب قادم للدولة ولابد من كنس المدينة
لا يدري كم مر عليه من الزمن وهو مغمض العينين. إلى أن وجد نفسه ينتزع انتراعا من رصيف الشارع ويكب في لوري البلديه.. ! وعندما فتح عينيه وجد نفسه محشورا وسط حشد كبير من المشردين وجنبا إلى جنب مع أطفال القمامة.. فارتعش كعصفور في النزع الأخير وفي أفق عينيه لاحت له زوجته وهي تودعه على عتبة الباب…؛؛ لا تيأس.؛؛ وضع راسه بين ذراعيه من ثقل الهم.؛؛ وكان وجهه شديد التغضن والشحوب ومفعما بالمرارة وكانت العربة أشبه بطفاية سجائر كبيرة.! الجميع محشورون فيها كاعقاب السجائر.؛؛ العطالى.. والمعاقون والشحادون وبعض المارة والذين في قلوبهم مرض..! وبائعات الشاي
وكان هناك ثمة طفل لم يتجاوز الثامنة من عمره مدهوسا ومدعوكا تحت الأرجل ومن حين لآخر يرسل إليه نظراته الخائفة وهو يمضغ قليل من الخبز الحاف الجاف بانتصار يثير الهلع.. ويوزع عينيه حوله كفأر صغير يتأهب للفرار غير مكترث بأنه يسحق..!
مازلت عربات البلدية تكنس المدينة بضراوة…
الأجساد البائسة تتركم فوق بعضها كغيوم سوداء تنذر بالمطر.. أجساد ضامرة وممتلئة بالاوساخ وعيون مطفئة.. ووجوه يبدو عليها التعود على الحشر.. وسخط بائعات الشاي يضيع في هدير اللوري الذي ينهب الشوارع كأنه في سباق وعلى امتداد الطريق كان يرى من خلال سياج اللوري الابراج الزجاجية والبقالات الحديثة التي تئن من ثقل المأكولات المحلية والمستوردة..؛ انها معادلة الرعب مابين التخمة المفرطة والجوع المزمن…..؛؛؛؛؛!
ألصق راسه بسياج اللوري وامعن القدر في امتهانه عندما لمح البنك الأنيق الذي كان يعمل به. ! خنقته العبرة.. وتوغل الظلم في انسجته وعظامه.. نظر بعينين كدرتين إلى عساكر البلدية وكان وجهه صارما ومتجهما وشفتاه غليظتين وهو يطالع إحدى الصحف اليومية أراد أن يحكي له…؛؛؛؛ أن يقول انه في هذا البنك..؛؛ أن يسرد له قصته.. ولكن الكلام مات بين شفتيه.. وبلل الألم وجهه وغمرته المرارة. وهو ينظر بعينين ساخطتين إلى الصحيفة المفرودة أمامه والتي حملت في صدر صفحتها الأولى (. الاعتداء على أموال البنوك بالمليارات وكيل نيابة مخالفة الأجهزة المصرفية يكشف عن الاعتداء على أموال الأجهزة المصرفية والبالغة 29 مليار جنيه)
كان هذا الخبر كافيا لتفاقم إحباطه فدفن راسه بين كفيه واختلجت عضلات فكه السفلي من شدة الصداع.. رفع رأسه على أثر جلبة المشردين وضحكاتهم الساخرة وهو يشيرون إلى مجنون في مقتبل العمر كان يركض خلف العربة وعند توقفها في إحدى إشارات المرور أدركها كان نحيلا وبارز عظام الوجنتين يطلق ضحكات متحشرجة ويخرج لسانه ليثير سخط عساكر البلدية كان سعيدا بانفلاته من عربة البلدية يلوح بذزاعيه ويركل الهواء بحذائه في فرح مشوش.. يرفع عقيرته بالغناء… وجذب انتباهه الحذاء الذي يمزق به الهواء.. فنقل نظراتة إلى قدميه الحافيتين.. وندت عنه ابتسامة متوجسة شقت طريقها إلى إلى وجهه المجهد.. لقد كان المجنون سعيدا بانفلاته من العربة وبسرقة حذائه
وكانت عربة البلدية قد شارفت على الوصول..
ولاح من بعيد مبنى البلدية فرفع عينية للسماء……
وفي هذه اللحظة أيقن انه اصبح من المشردين..!
كتبت هذه القصة قيل الثورة
التعليقات مغلقة.