رحلة في شعـاب الهـمّّة بقلم .. بوعون العيد
في ذاك الزّقاق ، ومن ذاك الشارع كانت الوُجهة صحبة عربته اليدوية المصنوعة من حديد عزمه ،ونور قلبه ، وخشب همّته وعلوّ هامته ،حيث يعرض بضاعته مرتبة مصفوفة من رغيف ، وخبز ، وكسرة ينتظر عودة المارّة مساء إلى بيوتاتهم بعد ساعات عمل علّه يظفر ببيع كسرة أو رغيف أو خبزة ليعود ليلا محمّلا بحاجات عياله مثقلا بأرزاء التّعب هو يجلس من على كرسيّه العتيق الذي ناضر شحوب وجهه إصفرارا وامتقاعا ، وبين الفينة والفينة يحتمي بالعربة ويتخذها سربالا تقيه عادية القرِّ ، هو يقف ويجلس ،ويدور، ويتحرّك في الجهات الأربع يجدّد العزم ، ويحرّك ما يضخّه القلب في الجسم ، لكن للبرد لسعات يسري سُمّها في العظام ، ويتسرب إلى الأحشاء فيوقد حمّى البؤس الذي تتعدّد ألوانه ، وتتشكل صوره ، وتحتشِد ٱثاره ، وهو كذلك يتحمّل شظف الإسترزاق حتى امتلأ إناءه ،فاستجمع بعض ما تبقى من دفء جسمه وأخذته سِنة نوم ، ورحلت به الأحلام ، والٱمال إلى عالم تتلألأ أنواره ، وتمتزج فيه السّعادة بالحبور حيث تراءت له نفسه بين دكّان كبير على مدّ البصر وباعة كُثر ، وهم في صَخب ،وجلبة إمّا مُمْتارين أو مُبتاعين ، وهو من على أريكته ينظر الكلّ ويرقُبهم ، ويترصّد البؤساء والمحتاجين ، والمعوزين ، وهم يشبعون مرٱهم بما يشتهونه من حاجيات دون حول ولاقوّة ، وماهي إلّا لحظات حتى أسدل اللّيل ستاره ، وجرّ الضّياء خيوط نوره فِرارا ، واشتعلت الأضواء ، وتثاقلت الأقدام مشيا عدا أزيز بعض السّيارات ، واشتدّت وطأت الصّقيع تجمّد الأعضاء وتقطع الأوصال . حينها استفاق وقد جثم الليل على مجثمه فتراءت له لا فتة ممرّ الرّاجلين وهي تحدّثه قائلة : ترجّل يا … لقد أوى الكلّ إلى مأواه ، وسكنت حركة الأحياء ،وساد الصّمت والكدر ، عد إلى حيث تأوي .
أيها المرابط في ساحة طلب الرّزق شُموخا وتِيها أنت مَثل الرّجولة الحقّة وبُعد الهمّة في زمن تلاشت فيها النّخوة والغيرة والذّود عن الحِمى ، أنت نِبراس لكلّ من يبني بيته وعياله بساعد الصّبر والاصطبار ، ومغالبة الحاجة ممتشقا سيف التحدّي والعيش الرّغيد من عرق الجبين ،ولقمة الحلال .
أيّها الباسل في باحة الكسب الحلال هناك من يتحاشاك رحمة ورأفة ،وأنت تتحاماه أنفة واستغناء ، ولعلّي لم أحسن مدحك ،أوكنت لم أبْلغ في وصفك فهذه هي الحقيقة ، وكما يقول الرافعي في كتابه ” المساكين “هذا القلم كالثّمر الحلو في العود المرّ .
هنا تكمن منابت الشهامة ، والاستغناء عما بأيدي الٱخرين استعفافا ،وعزّة وكبرياء ،وسعيا في تحقيق لقمة حلال دون سؤال الناس إلحافا ، وربما يُزجَر ،ويُـنهَر ، لكن في غصن الزّيتون بِشـارة سلام وأمن وأمـان ، وفرج قريب بإذن الله ، فلله الحمد مانحا ومانعا ومعطيا وممسـكا .
التعليقات مغلقة.