رسالة شتاء
بقلم سامح خير
سافر في رحلة عمل لأحد المدن الأوربية، حيث برد الشتاء القارس يتسلل داخل عظامه، أتم مهمته بنجاح و أستغل فرصة وجوده بتلك العاصمة الأوربية ليستمتع بطبيعتها و الثلوج تكسو شوارعها لتكسبها اللون الأبيض.
مرت ساعة و بدأت قواه تخور أمام هذا الصقيع الذى لم يعتاد عليه صديقنا، فتسلل إلى أحدى مقاهى المدينة القديمة ليحتسي قدح القهوة لعله يسعفه و يبعث بعض الدفء لجسده المرتعش، ثم رفع هاتفه ليحادث أسرته و يطمئن على أحوالهم، فبدأ يتحدث مع أبنه ذو الخمسة عشر أعوام و كعادة أبناء هذا السن، كانت كل إجاباته على مقدار السؤال، كان يحاول جذب أطراف الحديث و فتح مواضيع للنقاش مع أبنه و لكن كعادة أبنه، لم يعطيه الدفء الذى كان يترجاه من أسئلته فودعه بسؤاله إذا كان يريد شئ ليحضره له من أوروبا، أما الأبن الغير عابئ يرد “إذا أحتجت لشئ فسوف أخبرك” يعقبها وداعه له بأنى مضطر لإغلاق الخط لأن صديقه منتظره ليلعب معه online Xbox .
أغلق الأب الخط ناسياً أنه لم يتكلم مع زوجته أو أبنه الأصغر، فجفاء المحادثة مع أبنه الأكبر كانت كفيلة ببث مشاعر مختلطة داخل صديقنا جعلته ينسى ما هو كان فاعله.
نادى بصوت عال حزين على نادل المقهى و طلب منه ورقة و قلم ليتنفس من خلالهم و يطرد بعض المشاعر السلبية و أبتدأ يكتب تلك الرسالة التي لا يدري ما عساها تكون مصيرها. رأيته يتحرك ليجلس بجوار زجاج المقهى المطل على الشارع الرئيسي ليتأمل عن كثب أوراق الشجر تتساقط و كأنها دموع قلبه تسقط على أرض المدينة لتدوس عليها أقدام المارة كمثل شعوره حين خذله أبنه بعدم الاهتمام، و لمحته بدأ بكتابة بعض الكلمات ثم رفع عينيه متأملاً من حوله فوجد عائلة من والدين و طفلين يتجاذبا أطراف الحديث بالجانب الآخر من المقهى، ممتزجة أحاديثهم بضحكاتهم مما زاد من تأجج المشاعر بداخله، فطفق يُكمل ما بدأ كتابته و أستمر يكتب لمدة عشر دقائق مستمرة حتى أشار على النادل طالباً الحساب، فدفعه و قام ليرجع لغرفته بالفندق. لم يرد أن يأخذ ما كتبه معه فقام بتطبيقها و رميها بصندوق القمامة الموضوع بجانب الباب .
و خلال تلك اللحظات، نادى صاحب المقهى على أحدى العمال ليحضر له الورقة التي رماها هذا الزبون فهو كان يتابع نظراته الحزينة، دفعه فضوله ليقرأ ماذا كتب هذا الزبون العابر. و لما فتح الورقة وجده كتب ما يلى :
احبك يا ابنى و لكن لا أستطيع لمس قلبك الصغير، أحببتك قبل ان اراك، و عشقتك بعد ان تملت عيناى من رؤياك.
كبرنا مع بعض، أنا انشغلت بعملي و انت التهيت بأصدقائك و اهتماماتك الخاصة، فتباعدت المسافات و قصٌر حبل الود بيننا و أصبح ينتبانى الجنون كلما رأيتك لا تحبّني متخيلاً ان كونى والدك هو كافى لكى تموت فىّ حبا، حتى وقفت اليوم أواجه نفسى و ألومها على كل لحظة أضعتها من غير ان اقترب إليك.
يا ابنى يا سندى يا رفيقى يا حبيبى، ان حياتى بلا معنى او طعم من دون حبك، لقد أنهكت نفسي بعملي ظناً مني أن هذا العمل هو الملاذ لحياة أفضل لنا جميعًا، تخيلت أنك ستكون مشتاقًا لسماع صوتى حين أغيب عنك لفترة، كنت أعيش الوهم أني أملك قلبك و لكن أتضح لي أنى كانت واهم، و بدأت تجول بداخلي أسئلة كثيرة …من منا المخطئ في حق الآخر؟! و لكن وجدتني أرد على نفسي بتلقائية ” أكيد أنا ” .
حقاً لم أستغل الفرصة لأكون إحدى أهتمامتك خلال خمسة عشر عاماً فماذا تنتظر ؟!
و أنتهت الرسالة عند هذه الكلمة، فطلب صاحب المقهى من العامل أن يُفتش مجدداً داخل القمامة لعله يجد ورقة أخرى أكمل فيها صديقنا رسالته و لكنهم لم يجدوا شيئاً !!
خرج صاحب المقهى سريعاً ليبحث عن هذا الزبون لعله يلحق به و لكن للأسف كان قد أختفى تماماً.
لا أدرى ماذا حملت الأيام لهذا الزبون شارب القهوة فأخباره أختفت منذ ذلك اليوم و لكن ما أعلمه أن هذه الرسالة قد غيرت فكر صاحب هذا المقهى الذى صار فيما بعد أحد أشهر المتخصصين فى تربية الأطفال بهذه المدينة بعد حصوله على عدة شهادات في أسس التربية السليمة التي انعكست على أسرته الصغيرة بحصولها على الدفء الصحي قبل أن تنعكس عليه بعد أن أصبح من أحد أشهر ضيوف البرامج التليفزيونية فى أوروبا في علم تربية الأطفال !
التعليقات مغلقة.