رسالة من ميت مات مرتين
د.نهاد حلاوة
كلما نظرت إلى مكتبي ورأيت تلك الكومة من نتائج الفحوصات الطبية وصور الأشعة ووصفات الأطباء..أتذكر علي الفور ما أحاول تناسبه.. فعلي ان أستسلم..فعلي ان استسلم في أسرع وقت لاصابع الجراحين ومشارطهم..ربما امكنهم استئصال الامى ووضع حد لعذابى.
صباح ذلك اليوم..تأملت مليا صورتي الشاحبة في المرآه المثبتة بخزانة ملابسى امام سريري واتخذت القرار الصعب.. لا فائدة من الهروب..والتسويف..لا جدوى من حياة لم يعد يربطني بها غير شعورى بالحسرة عندما تقبل على ابنتى الصغيرة لتمارس حقها في اللهو بين أحضان أبيها..فلا يطاوعنى جسدى الواهن علي مجاراة شقاوتها..ما معني تحمل سياط نظرات زوجتى.. المفعمة بالشفقة حينا وباليأس احيانا فلا أملك إلا مبادلتى إياها بنظرات إعتذار يومية..ولتنفيذ قرارى كان علي إقناع زوجتي ان تقضى يومها عند امها لأتمكن من الذهاب إلي المستشفى وحدى ودون علم أحد من اسرتي.
استجمعت بقايا شجاعتي التي تناثرت اشلاؤها عبر الزمن ..وما تبقي من عافيتي التي انهكها طول صراعي مع المرض ..واستطعت بمفردى انهاء اجراءات دخولى المستشفى بعد ان استقبلنى الأطباء بعاصفة من التوبيخ لتأجيلى المتكرر إجراء العملية الجراحية مما وضعهم في مأزق نتيجة زيادة احتمالات حدوث المضاعفات..وامعانا في احكام الحصار على والتمكن مني.. فقد قرر الجراحون إجراء العملية غدا..
رغم اقراص المنوم..وطمأنة الجميع لي بتأكيدهم ان هذه العملية تجري كثيرا بنجاح..لم يفارقني القلق هذه الليلة ولم اتكمن إلا من اصتياد دقائق قليلة غفوت خلالها..وكلما اقترب الصباح ازداد توترى واضطربت دقات قلبي العليل.. واجتاحنى شعور بالندم علي خطوتي المتهورة..ولكن سبق السيف العذل ..فها أنا مدفوعا علي نقالة الي غرفة العمليات.
بدأ المخدر يسري في جسدى ..عدة ثوانى كانت كافية لانزلق تدريجيا الي هوة فقدان الوعي..فكانت تلك الثواني بمثابة برزخ العبور من الحياة الي العدم.. ورغم أنها ثواني معدودة إلا أنها كانت كافية لاسترجاع شريط حياتى السابقة فها أنا أري نفسي أحبو رضيعا ..أتحسس الاشياء حولى لاتعرفها.. انطق كلماتى الأولي فتثير الضحك..اقلد الكبار..استسلم لرغبة امى في شرب كوب الحليب فأحظى بقطعة حلوى واتجنب التوبيخ..احمل حقيبة المدرسةعلي ظهري ..اصحب ابي الي المسجد للصلاة..اركل كرة في مرمي الخصم..اتطلع لابنة الجيران من وراء ستائر غرفتي..اتسلم اول مرتب من وظيفتي..اجلس مبتسما بجوار عروسي بردائها الابيض تحوطنا ألوان الزهور..ابحث في المعاجم عن اسم لابنتي القادمة اداعبها فتضحك..استطيع الآن ان أري عينها بصفاء شديد وألمح ما فيها من حزن وهى تستحلفني ان أعيش من أجلها وتصرخ لازلت احتاجك.
افقت علي صوت الممرضة تقول:مبروك لقد نجحت العملية..ولكنى نظرت إليها بدون ان اجيب..فقد كنت في حالة من الإعياء وشرود الذهن لا تسمح لي بالتجاوب مع ما هم حولى..وكلما شعرت بالالم صرخت فتقترب مني الممرضة وتضع شيئا في الانابيب المتصلة بجسدى..تكتم صرخاتي واعود لحالة الشرود ثانية.
احسست بأحد يتفحص بيديه جسدى ويكشف عن جرحي ..ثم يصيح: كل هذا النزيف ولم يشعر أحد.. بسرعة اتصلوا ببنك الدم واطلبوا ثلاثة أو أربعة أكياس دم..ضاعفى سرعة المحاليل..ناوليني بسرعة جهاز الضغط والسماعة..اشعر بالجلبة حولي واسمع ما يدور بوضوح ولكني لا أقوى علي الحراك أو الكلام أريد أن اطمئن الطبيب انني بخير ولا داعي لثورته ولكن لساني اتقل من ان استطيع تحريكه..وفى ظل الارتباك وضع الطبيب يده علي نبضى ثم السماعة علي صدري ..ورفع يدى الي اعلي وتركها لتسقط بجوارى..ثم اعلن بصوت متهدج لقد مات..
حاولت أن أصرخ.. ان احرك أحد اطرافي او حتي اومئ براسى فلم أستطع لقد كنت خائر القوى لدرجة ان تحريك جفوني اصبح مستحيلا..ربما كان هذا هو الموت ..الطبيب علي حق فنحن نجهل الموت فما عاد أحد منه ليخبرنا عنه..وعلي كل الأحوال فلا قبل لى بمقاومة هذا القرار أيا كانت صحته..
اصوات متداخلة حولى..لا حول ولا قوة إلا بالله ..شهادة الوفاة سبب الوفاة..الكفن ..اكرام الميت دفنه..ليس معه أحد من أقاربه.. الدوام لله ثم كان صوت أحدهم.. ربما كان ذلك الطبيب القاسى الذى أصدر قراره بنقلى تعسفا لعالم الأموات- قائلا بوضوح وحزم : انزعوا عن جسده أنابيب المحاليل وخراطيم التغذية وكيس الدم وقسطرة البول..وكأنه يمعن في تأكيد موتى ويريد قطع كل صلة لي بالحياة وأضاف قائلا: ينقل الي الثلاجة ويبلغ أهله علي الفور.
جردت من ملابسي وتم لفي بشئ ما ووضعت علي نقالة دفعها شخصان وانطلقنا ثلاثتنا عبر ممر طويل..كنت أشعر بكل ما حولى وأعيه ولكنى لا استطيع التفاعل والانفعال..احس باهتزازات النقالة تنتقل الي جرحي العاري وتؤلمه..يسرع بي الرجلان احيانا..ويتوقفان احيانا ليلقيا التحية علي من يصادفهما..ثم يستانفا اجترار حديث ممل عن مباراة كرة قدم شاهدها كلاهما بالامس وشاهدتها انا أيضا..يتغني احدهما بأغنية عن جمال الحياة..التي احرم منها الآن..يهمس الآخر بتفاصيل علاقته الحميمة بأمرأته..
في تلك الثلاجة الموحشة اسم رائحة الموت مع كل شهيق يدخل صدرى وهى رائحة لا توصف فهى تميز الموت وتنبئ عنه لمن لا يعرف ..بدأت برودة المكان تتسرب شيئا فشيئا إلي جسدى الملقي علي ارضية رخامية..وبدأت قشعريرة تسري في عضلاتى وتهزها وكأنها توقظني من غفوتي..ازدادت الاهتزازات عنفا وشملت كل الجسد وكأنها تعلن استئناف..او بمعني اصح استمرار الحياة..
استطيع الآن تحريك رأسى يمينا ويسارا..بامكانى ان احرك اطرافي واتلمس ما حولي..فلم اجد إلا جثثا باردة..لست مثلهم قطعا..فلم يحاول أحد منهم أن يلمسنى او يتعرف على القادم الجديد..لم يصدر أى صوت او حركة من ايهم.
فتحت عيني فوجدت الظلام الدامس يلف المكان إلا أن من بصيص خافت يتسرب أسفل الباب..صرخت فسمعت صدى صرختي..كررتها ولا من مجيب..تحسست جسدى وقارنت بين ملمسه وملمس الجثث حولي فشعرت بالألم حين لمست اناملي جرحي المفتوح فأيقنت اننى لازلت احيا.. واثناء انهماكى في التأكد من علامات الحياة..اذا بى اسمع صوت الباب يفتح ألتفت ناحية الصوت ..واذا بشعاع الشمس يبدد ظلام الثلاجة ويتحدى برودتها واذا برجل يحمل بين يديه لفافة- ربما كانت جثة لطفل صغير- صحت فيه ارجوك اخرجنى من هنا..خذني معك..انني حي فزع الرجل وبادلني الصياح بصراخ ورمي اللفافة من يده فكان ارتطامها بالارضية الصلبة كفيلا بقتل من فيها لوكان يزعم- مثلي- انه لازال حيا. وفر الرجل مهرولا خارج الثلاجة يتبعه صدى صرخاته..واحسن حظي فقد ترك باب الثلاجة مفتوحا..
تحاملت علي نفسى مستجمعا ما تبقي من رمق الحياة..وبدأت الزحف علي أطرافى الأربعة خارج الثلاجة..مدفوعا بألام جرحي التي تتصاعد مع كل خطوة اخطوها..وصلت للباب لفتحه فلم أستطع وسقطت بجواره..وما هي إلا لحظات حتي فتح الباب بعشرات الاشخاص ويتقدمهم ذلك الرجل الذى فتح لي باب الثلاجة..وما ان رآوني حتي تسمرت أقدامهم في اماكنهم وأصبحوا ككتلة صخرية..رددت بصوت عال: الحمد لله.. الحمد لله..فلم يرد أحد فقد كانت هيئتى تدعو إلي الذهول والصدمة..فلقد كنت عاريا تماما كيوم ولدتنى أمي.. واثار العملية الجراحية تشق جسدى وتكاد تكشف عن احشائى..ناهيك عن انني عائد لتوى من ثلاجة الموت..ولم يبدد الصمت هذه الكتلة البشرية إلا صوت أحدهم – ربما كان مديرا أو مسئولا- حين اقترب مني قائلا: فليساعده أحد علي القيام.. ولما لم يستجب أحد لندائه انحني ليرفعني من الارض ..فاقتدى به آخرون وتفتت الصخرة البشرية.. هذا يسندنى لأقف ..وذاك يغطى عورتى بردائه الابيض وآخر يطمئنني اننى بخير..وفي ثوان احضر احدهم نقالة وتم دفعي لأعود مرة أخرى الي نفس سريري السابق..
وسط الذهول ودهشة زملائى المرضى..وارتباك الأطباء وهيئة التمريض تلقيت تهاني بالعودة للحياة..وبدأ الطاقم الطبي في تركيب ما نزع عني من انابيب وتوصيلات..وبدأت محاولات الإنقاذ وترددت عبارات الأمل والرجاء والدعاء من أجلي جنبا الى جنب مع عبارات والتنكيل بالطبيب الذى صادر حياتي ظلما..
ورغم محاولات الأطباء فقد شعرت أن وعيى بدأ يغيب تدريجيا..ليعود ثم يغيب وهكذا..بدأت أشعر بأنني لا اتحكم في التنفس..وبدأت أري اشباحا تطاردني في كل اتجاه.. لقد استهلكت كل ذخيرة الحياة بداخلي.
كانت إدارة المستشفى قد ابلغت زوجتي بوفاتي..فجاءت حاملة صغيرتي ليلقيا نظرة الوداع..وما ان اخبروها انني لازلت علي قيد الحياة وجار انقاذى ..سقطت مغشيا عليها محتضنة ابنتي بجوار سريري..نظرت إليهما في يقظة بعد اغفاء نظرات شاردة..بكت صغيرتي..ولكني لاول مرة لا انفعل لبكائها..ولأول مرة لا اقبلها حين تقبل علي.. ولآخر مرة أراها..فقد جاء كبير الاطباء ليطمئن علي جهود الإنقاذ المذولة..وبعد فحص دقيق اعلن البقاء لله.
التعليقات مغلقة.