رسالة همزية …رشيد الموذن -المغرب
خلف النافذة المشرعة على مصراعيها ، استوى في جلسته على الأريكة ، وبعض النسمات ، تحمل السترات الحريرية لتلمس وجنته القرمزية . مرت أسابيع وهو على هذا الحال كل يوم ، وكأنه يحاول اقتحام الهاتف بين يديه ، حيث يسلم نفسه للكم الهائل للرسائل الواردة عبر البريد الالكتروني ، او عبر وسائل التواصل الإجتماعي .. ببطء أخدت أنامله تداعب الشاشة ، وعينين ثاقبتين حركاتها حاذقة تراقب الحروف وهي تدب دبيب النمل في الضوء ، غير عابئ بما يحيط به سوى بعض الرنات من حين لآخر تطرق أذنيه . راح يهز رأسه الى الأعلى والى الإسفل . لقد اعتراه شعور بالتوتر ، كيف له الرد على كل هذه الصفحات ؟ وكما تبين لديه بين السطور نوعا من الحسرات تحلق ، وتلملم حولها احيانا عصبيات . كلما مر عليها كان لديه شيئ ليقوله ، فيقرص نفسه فيها ويواصل . لكنه في الأخير أدرك أن عليه أن يجد إجابة شافية يدونها ، ثم ينسخها ، وبذالك يرسلها دفعة واحدة لكل القائمة في الوارد . اعترته رعدة أسفل ظهره ، لم ينبس ببنت شفة ، إنما تفوهت الكلمات من بين أنامله قائلة :
بعد البسملة والحمد .أحييكم بتحية الإسلام الخالدة . مع التبريكات بهذه الايام النافحة ….وبعد .
فقد جاء في الأثر حديث قدسي عن الله عز وجل يقول :
(( ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن ))….فبهذا كيف يعتقد أن الله يقيم في مكة ؟ أو في المدينة المنورة ؟ وكيف يمكن التصور أن الله يمكن أن يكون محصورا في فضاء محدود في أي مسجد من مساجد العالم ؟ لماذا كل هذا القلق ؟! على لحظات بالذات ، وكأنها هي الزمن الوحيد الذي يستطيع فيه الانسان أن يشعر بصورة كاملة بوجود الله في حياته . دون أن يمعن التفكير بشكل أعمق في كثير من الأجزاء الصغيرة التي اعتاد عليها ، فمن الممكن إذابة جميع المسافات والمقاسات الممكنة . وإنجاز أعمال لم يتم آنجازها من قبل ، لجعل الجسم يفرز ادرينالين ، بالاضافة لشحنة ايمانية جديدة ممتعة . وينبغي الادراك أن في زمن النبي ، أولم تكن هناك أوبئة ؟ ألم تنشب معارك وحروب ؟ إن التحسر على القدر لا يجدي نفعا ، والحروب دائما ما تكون جوهر الحياة ، تعلم المرء كيف يصبح أقل أنانية ، وأكثر حكمة ، أكثر عطف وأكثر كرما .وفي المقابل قد يزداد البعض الآخر أيضا قسوة ، وهواسة بالثروة والشهرة والسلطة بجشع شديد . فهذا المنعطف اليوم الذي أصاب البشر بالذهول ، لم يسبق له مثيل في الحياة المعاشة ، غير أنه منعطف رئيسي لكل المناحي الفردية منها ، والاجتماعية ، بل حتى على المستوى السياسات الدولية بشكل عام . وبات الخلاص منه مثقل للكاهل ، ويقع على عاتق كل فرد في العالم. لذالك فلا اعتراض لشيئ يجهله العقل ، يفرض نفسه بإلحاح ، ويقف الحل العلمي عاجزا أمامه ودون المساهمة في المعرفة الطبيعية له غير وضع التسمية واللقب . إذ بات من الواضح أن تحريك أزرار آلة العلم للهدم والتفكيك والفتك اقرب وأيسر من التركيب والإحياء والبناء . مما يعني أكثر المشكلات تأتي لتنتشل القاموس الثمين ، كي توضحه للقلب . فهناك أمور لا يمكن إدراكها من الخارج مطلقا ، ولكن يمكن الإحساس بها من الداخل فحسب . ومهما حصل هذا لا يمنح ذريعة كي يتم الإنسحاب عن تجنب الواجبات، والتمرغ في كومة الأعذار . فالعسر هو وضع اليد في عنق النفس كي لا تتدفق مع التيار ، وهي تراقب الأحداث ، تتكشف أمامها مع مرور الأيام . يجب فقط المحاربة ، لا توجد وسيلة في العصر الحاضر ، كما لم يسبق هناك وسيلة فيما مضى ، استطاع أن يحافظ بها أي مخلوق على البقاء قيد الحياة ، من غير أن يكون أقوى وأذكى مع ألد الخصوم. فهناك أصل ينبغي أن يراعى بجلاء ، أن كل كائن هو مجرد وجبة في نظر كائن أخر . حتى وإن كان في حلقة أضعف منه …
وتفضلوا بقبول أسمى تحيات عزوز
بهذا ختم رسالته ، وهو لا يمكن أن ينفك عن لهفة شديدة ودون مراجعة ما كتب كبس بعض الأزرار . وما هي إلا فترة وجيزة ، تمت عملية الإرسال بنجاح .. وانتهى به الأمر بقرع على الباب ، وصوت آسر تناهى خلفه ، كسر الصمت المطبق في المكان ….
عزوز… عزوووزي…
ألا تريد أن تبرح الغرفة اليوم ؟!
ألحجر …مغادرة المبنى وليس الغرفة ؟؟
إرتدى رداء ما ، وتدحرج نحو الباب .رادا بصوت دافئ خفيف ، وبموج من الرغبة تسري بين ساقيه ، وقلب متسع :
لا تقلقي حبيبتي . كنت على وشك المغادرة …
وانخفض صوته ليصبح همسا ، بصوت متهدج متقطع ، كما لو كان خجلا مما يقول …
مع تنهيدة مخنوقة بين شفتيه : ..
أزف الرحيل …سأغرد لزرقة السماء…
وستغني لي اللجج الزرقاء ….
ثم سأرقص ببهجة وانتشاء ..
ببطء وبسرعة ، كتدفق الجداول بالماء …
التعليقات مغلقة.