رصاصةُ الرّحمة …. بقلم فادية حسون
تلمّست حنان بتلهّفٍ شديدٍ جبينَ صغيرها مجدٍ ذي العامين… وكاد كفُّها يحترق… فقد وصلت حرارتُه حدّا لا يطاق… كل شيء من حولها كان ينطق بالألم والخوف… المطرُ الغزيرُ في الخارج … والمدفأةُ التي شارفت على الانطفاء… ودقّاتُ عقارب ساعة الجدار التي تجاوزت منتصفَ الليل… ومواءُ القططِ الشّاردة التي استقدمت شؤمَ العالمِ كلّه ليستقرَّ فوق قلبها المثقلِ بالذعر… للمرّة الألف أمسكت جوالَها وكرّرتِ الاتصالَ بسعيدٍ زوجها الذي أعتنق السّهرَ خارجَ المنزل لوقت متأخّر…لكن جوالَه كالعادة كان خارج نطاقِ الخدمة.. لأن من عاداته القبيحة إقفال جواله كي لا تأخذُه زوجتُه من ملذّاته الدنيويّة الوضيعة… كانت حرارةُ الصّغير تتزايدُ باضطراد ملحوظ.. أو هكذا خيّل إلى قلب الأم المسكينة…
إعتادت حنان على هذا النّمط من العيش بعد أن استقرّ بها الحال في أحد بلدان الشتات.. وقد روّضت نفسَها على غيابه المقيت… لأنها سئمت عودتَه المتأخّرة قبل طلوع الفجر وقد فاحت من جسده النتن عطورٌ نسائيّة تروي قصة تغيّبه المعجون بماء بالقذارة…
لكنها اليوم تحتاجه وبإصرار ليأتيَ ويسعفَ طفلَه إلى أقرب نقطةٍ طبّية في المنطقة… ازداد عجزُها أمام أنّات صغيرها وأجهشت بالبكاء.. فكّرت بالاتصال بإحدى صديقاتها المقرّبات… وبيدين مرتجفتين أدارت قرصَ الهاتف… وكتبت الرقم … تأخر الرد…
عاودتِ الاتصالَ من جديد وقد ارتسمت على وجهها الباكي ملامحُ الحرج… فالوقتُ متأخرٌ… والناسُ نيام… لكنّها لم تجد بدّا من الاتصال…. وبعد عدة محاولات…رُفعت سماعة الهاتف… أتاها صوتٌ ذكوريٌّ لم تألفه…
مساء الخير أخي… أنا.. انا.. حنان زوجة سعيد..
مساء النور.. نعم تفضلي..
وبصوت باكٍ قالت: أخي أرجوك أغثني ..فولدي يكاد يختلج من الحرارة.. وأبوه ليس في المنزل..
فهمت فهمت سأرتدي ملابسي وآتيك حالا…
وأقفل الهاتف قبل أن تقول له:حبذا لو تحضر زوجتك معك أخي..
فحنان تحسب ألف حساب لزوجها ذي الأفكار السوداء.. وقد خشيت أن يتصادفَ دخولُه مع دخول ذاك الرجل إلى بيتها.. وعندها ستقع كارثةٌ قد تودي بحياتها الأُسرية …
سارعت حنان إلى ارتداء معطفها الشتوي.. صارفة عن ذهنها تلك الأفكار المتشائمة… فحالة طفلها تستدعي المجازفة والإسراع … غطّته برداءٍ صوفي وضمّته الى صدرها وهي تتمتم بأدعيتها بصوت عالٍ راجية من الله المدد والعون…. وماهي إلا دقائق معدودة وإذ بضرباتٍ متلاحقةّ على الباب… لابد أنه جارنا.. هكذا تمتمت… فتحت الباب بسرعة مثل غريق صادف طوق النجاة … قالت له بتوسّل هيا أرجوك فلنسرع…. لكن صوتا أجشًّ أثقلته الثمالةُ أتاها من الخارج قائلا : إلى أين أيتها الساقطة!!؟؟ …
إلى المشفى ياسعيد فطفلنا يكاد يموت …
رد باستهزاء : أولا تعرفين طريق المشفى بمفردك.. ؟
قالت بصوت مخنوق كرجل ثمانيني احتشد في صدره كمٌّ كبيرٌ من دخان السجائر: سعيد الوقت لا يتّسع للجدال نريد أن نسعفَ ولدنا الآن فقد اقترب من حافة الاختلاج…
نظر إليها والشرر يقطر من عينيه المحمرّتين والتي ترتسم فوقهما صورُ كؤوسٍ تقرع بفظاظة .. وغانياتٍ تتراقصن فوق جراحات حنان المرأة العفيفة الصائنة لحرمة بيتها…
قال لها: اتبعيني وسنتحاسب فيما بعد…
وكجارية مسلوبة الإرادة هرولت حنان وراءه متمتمة بكلمات الاعتذار للجار الذي وضعته دون قصد منها في موقف محرج… لم تتذكر أخذ مظلتها معها فكانت تُحني متنها كي تدرأ البلل عن مجد…
وصلا إلى قسم الإسعاف… لم تكن حنان قد أتقنت اللغة الألمانية بعد.. فبدأ سعيد يشرح لهم بصوته الثمل حالة طفله… سارع الطاقمُ الطبّي المناوبُ إلى إجراء الإسعافاتِ اللّازمة للطفل بينما حنان تنقّل بصرها بين وجوههم الخبيرة علّها تحظى ببرقة اطمئنان.. وبعد لأيٍ وجهدٍ شديدين استقرّت حالة الطفل وتنفّست حنان الصّعداء وهي تتفوّه بعبارات الشكر والامتنان بلكنتها الثقيلة التي استطاعت التقاطها من بعض الألمان… تم نقلُ الطّفل الى غرفة العناية الخاصة.. تبعته أمه وهي تحمد الله على سلامته وتمسح عبراتها بيديها الباردتين …
انتظري ….
جاءها صوت سعيدٍ كعاصفة رعدية شرسة حطمت البقية الباقية من كيانها …. التفتت إليه باستغراب…
قال لها : أنت طالق .. طالق.. طالق…
وبعد مضي بضع ساعات أفاقت حنان لترى نفسها في أحد أسرّة المشفى بينما أنامل طفلها تداعب وجهها الملائكي كي تصحوَ وتعود للحياة .. فابتسمت ابتسامة مغمّسة بعصارة الخلاص من رجل احتكر نذالة العالم في قلبه النتن… احتضنت طفلها وقرّرت مواصلة حياةٍ خاليةٍ من دنسِ سعيدٍ وقذارتِه …
التعليقات مغلقة.