رمضان كريم.. بقلم مجدي سالم
مالت الشمس بعد العصر.. وتأكد لي أن نيتها اتجهت للغروب.. ورحت أتفرس في وجه والدي بينما كان مستغرقا في عمله.. وسارعت أدير عيناي بعيدا حين شعر بعيناي تلاحقه.. كنت أشعر بخلجاته وانفعالاته وأحس ارتباك أصابعه وهو يعمل.. وهو الذي اعتدت منه الثبات.. رحت أتململ في مقعدي.. وأصطنع الإنشغال بالقراءة في الجريدة القديمة الملقاة على الطاولة.. وكان قصر قامته وميل جسده للأمام بينما كان منهمكا في عمله ييسر لي متابعته..
قد يحسدك البعض أنك كنت طفلا نابها.. ولا يعرف هؤلاء أن هذه مشاركة الأب والأم في مشاكل يومهما وبكل الحواس كانت وبالا على هذا الطفل النابه.. وأن العينين السود الواسعتين التي تحدث عن جمالهما الكثيرون كانت تنقل إلي معاناتهما بكل التفاصيل.. وأن تلكما الأذنين المحلقتين في الهواء كهوائي المذياع كانتا تنقلانه إلى شجارهما خلف الأبواب..
ليس هناك شيء في العالم أقسى على الرجل من أن تفلت منه دموعه.. ليس هناك شيء في العالم أقسى على الأب من أن يرى أبناؤه دموعه ويسمعون في الكتمان نحيبه..
كان السؤال الذي لا إجابة له.. ليس فقط في هذا البيت الفقير قليل الأثاث الذي يوشك أن ينهار مع القدم وتحت وطأة المطر وغيره.. بل في كل البيوت المحيطة.. ولدى كل الجيران.. كنت كطفل نابه أعرف في الجيران نفس المعاناة.. أعرفها في حوارهم.. في عراكهم.. في ملابسهم أو هلاهيلهم.. في طعامهم.. في ورشهم.. في بيوتهم.. فيما تضعه أقدامهم من أشياء لا يمكن أن تجد لها وصفا..
كان الصباح والنهار والمساء والليل يتعاقبون على الحي فلا يتغير من حال الناس شيئا.. وعلى اختلاف ما كانت تعمل فيه الدكاكين الصغيرة من أنشطة متواضعة للغاية.. لم يكن الإختلاف ليعرف طريقه بين حال هذا أو ذاك.. ولا يملك أحدهم أن يساند الآخر اللهم إلا بالكلمات القليلة التي تعزي كل واحد منهما على سوء حاله.. وتسمع نابها يؤنب جاره.. وتسمع الآخر يسارع ليسكته خوفا من سوء العواقب..
- هي دي يا عم العدالة الإجتماعية بتاعة الثورة..! ييجي رمضان علينا وده حالنا.!
- اسكت ولم لسانك ليبعتوك ورا الشمس.. فين ياض القبقاب.؟
- النهارده رخا في الأخبار راسم كاريكاتير.. الشعب كله بيجري ورا رغيف عيش.. كإنه كوره
- قلت لك اسكت.. اتنيل ونقطنا بسكاتك.. فين ياض الزفت.؟
رأيت أبي وقد أنهى عمله يجمع عدته.. إن علي أن أترك الجريدة وأتبعه إلى البيت.. غالبت ضعفي أمام الفكرة لكنني لم أستطع.. وأصدقكم القول أنني كنت أعرف الجواب.. لكني سألته.. - مش حتجيب بلح أبريمي قبل ما نطلع.. عشان الفطار.. مش النهارده أول رمضان.؟
ولم يرد والدي.. إكتفى بإن تحسس جيبه الأيمن واختفى وراء قاطوع صغير في المحل.. كان يحصي قروشه.. وحين خرج كان الحزن باديا على وجهه.. أعطاني بعض قروشه قائلا.. - روح هات عيش وحصلني على فوق.. من سكات.. أنا مش ناقصك..
كان السؤال الذي لا أعرف له جوابا.. إذا كان أبي غير قادر على تغيير حاله.. فلماذا لا يغير الآخرون من حالهم.. ما هو السبب الذي يقف حائلا بينهم وبين أرزاقهم.. وكنت لا أستطيع بأي حال أن أسأله أو أن أسأل الجيران هذا السؤال الصعب.. .. مسكين هذا الطفل النابه..
وفي البيت كانت النظرات المتبادلة بين أبي وأمي تعبر عن حال الإفطار المتواضع المتوقع.. الذي لم يكن يختلف كثيرا عن وجبة الغذاء التقليدية التي اعتاد عليها البيت.. اللهم إلا في طبق الطرشي البلدي الذي اشتريته قبل العصر بألوانه الزاهية..
كان قد بقيت دقائق على آذان المغرب.. وعند الصغار فإن المغرب يعني الإجتماع عند باب المسجد.. فإذا أذن المؤذن طاروا إلى البيت بالبشارة.. أنه قد حان وقت الإفطار.. وكان صوت القرآن الآتي من عند أحد الجيران يشي بإن الآذان قد أوشك.. وكنت وأبي وأمي وأخوتي نتلهف لصوت الآذان.. دق أحدهم على الباب ففتحت أمي.. إنها عمتي الصغيرة تحمل صينية كبيرة فوق رأسها مالبثت أن وضعتها على جانب الطبلية المعدة للإفطار.. كان فيها أشياء كثيرة.. وسارعت مرة أخرى تلهث إلى الباب.. - سايبه بيتك يا مجنونة وانت عروسة.. وجايه لحد هنا..؟
- كل سنة وانتوا طيبين يا أخويا.. رمضان كريم.. ألحق أرجع بيتي..
التعليقات مغلقة.