روائي… بقلم مجدي ســـالم
أعبر الجسر القديم المتهالك في طريقي إلى محطة القطار.. علي أن أمر من هناك كلما أردت السفر.. فليس لي درب غيره إليها.. وعلي أن أمر أمام بيته.. ويا للضجر.. ها هو “أبو العريف” قد عاد من “مصر”.. ومعنى عودته أن تدور وتدور الحكايات التي يرويها في البلد بطولها وعرضها.. تروي قصص ومغامرات “الأستاذ حافظ” في أم الدنيا.. تلوك قصصه نساء القرية كما لو كانت حقائق وأساطير تاريخية.. يحكيها الصغار في جلسات حواديت المساء.. ويحكيها “أفندية البلد” وهم يزهون ببيجاماتهم المخططة الأنيقة وقد تجمعوا على جسر القرية الشهير.. وكم ضقت بأصواتهم وهم يتنادون..
“يا أستاذ فؤاد.. أنا أعرف إن “الأستاذ حافظ” ده كان باعت له باشا كبير يقابله..”
“والله يا أستاذ فاروق.. بيقولوا عليه أبوكاتو.. وبيروح مصر يجيب قرشينات من الناس..”
أقترب من بيته.. أحاول أن أسرع الخطى حتى لا يقع بصره علي.. وإلا وقع المحظور وكنت ضحيته اليوم.. أو المستمع بالقسر لحكاياته التي لا نهاية لها.. لكن.. ما أن مررت بالباب الخشبي الموارب حتى سمعت صوته يناديني من خلف الباب الخشبي ذي الحديد الصديء.. حاولت أن أحتمي بجدران الطين اللبن التي ملأتها الشروخ.. دون جدوى.. ورأيته يخرج من بيته.. بعينيه الجاحظتين ووجهه الذي يشبه وعاء كبيرا .. وانطلق المدفع يقذف بداناته من فم أحفظه بلا توقف.. وترتطم كلماته الرنانة الجوفاء بأذني المسكينتين.. ولا فكاك..
راح يتسائل وكأنه يهتف ويخاطب نفسه.. بينما يتحدث إلي..
” هو انا يا مغاوري حافضل مستنيهم لإمتى.. كل ما أروح يقولوا لي معلهش يا باشا.. ميعادك لسه.؟”
راح يسأل ويتسائل إلى متى الإنتظار.. وأين يذهب بهذه المواهب.. لقد فرغ صبره.. فيقينا أنه يفوق الكثيرين ممن قرأ لهم على مدى عمره.. وهو يفوقهم بأفكاره الجديدة وشخصيات قصصه المقنعة… فقد قالوا له مرارا أنه يجب أن تكون لشخصياته ثقافتها وأسلوبها المختلف في الحوار وتركيبها المحوري.. وراح يهذي كيف أنه على يقين أن أحداث قصصه لا تشبه تلك الأحداث المتكررة التي يأتي بها هؤلاء الكتاب أصحاب الأسماء الرنانة.. ناهيك عن الحبكة والعقدة والبدايات والنهايات..
كان “أبو العريف” يرى في نفسه أبو أمين غراب الروحي أو ألحكيم افندي.. وأين موهبة “يسري إدريس” مما حباه الله به من معارف.. وإن كان الحظ لم يوافيه حتى الآن.. وأنه كثيرا ما يلوم ويردد في نفسه أن عليه أن يبحث عن ذلك الحظ.. وأنه يراه هذه المرة يقينا وهو يدق بابه.. يعني زيارته الأخيرة ل “مصر”..
حاولت أن أتملص من يديه.. وأفلت.. فتعلق بشنطتي التي أحملها.. وراح يكمل حكايته وأمنياته وكأنني لست هناك.. راح يصف كيف أن الباب أصبح مشرعا على مصراعيه الآن وأن الفرصة متاحة.. فها هي الإذاعة قد أشارت إليه الشهر الماضي شخصيا رسالة صريحة ليس فيها أي لبس.. وإن لم يصرحوا بإسمه إشفاقا على الآخرين.. فقد قالوا – يخاطبونه – في الراديو..
” محدثكم ديمتري لوقا من برنامج.. من الحياة.. إن كان في حياتك قصة فلتقدمها إلى الإذاعة.. 4 شارع الشريفين بالقاهرة..”
حاولت الإفلات مرة أخرى.. سرت بضعة خطوات أمني النفس بالرحيل.. وأعدل من ثيابي التي كان يمسك بها..
” معلهش يا أستاذ حافظ أنا مضطر أمشي علشان باسافر.. إنت عارف..
” والله إنت ابن حلال مصفي.. وحتونسني.. وأنا كنت عاتل هم المشوار.. استنى دقيقة واحدة..”
مال إلى داخل داره فحمل شنطة أوراق مكتظة.. يبدو أنها كانت مجهزة بالفعل قريبا من الباب.. لحق بي وأمسك بذراعي.. راح يكمل حديثه.. كيف أنه يوشك أن يتحقق حلمه الذي راوده بالشهرة والمجد.. والذي عاش له طوال حياته.. فكم أنهك فكره وأوراقه وأقلامه.. ولطالما ملأ صفحات وصفحات بقصصه القصيرة ورواياته الطويلة.. كل ما عليه الآن أن يتعلم كيف يرتدي أفخم ثيابه وأن يحمل موهبته وأوراقه إلى مصر.. وانتبه.. سارع يستعد ويعدل من ثيابه.. صرنا خلال دقائق نكمل الطريق في الحارة المتربة الضيقة التي توصل إلى الشارع الخلفي.. راح يحكي أنه آن الأوان أن يبدل بيته الذي بشبه الجحر المهجور ببيت طويل عريض أو فيللا في مصر.. وقد آن الأوان أن تخرج أعماله إلى النور وأن تغير موهبته العظيمة من مستوى معيشته وأن تهبه أعماله إسما جديدا.. وأن تهبه ما يستحق من تقدير الناس وإعجابهم..
تذكر فجأة أنه لا يملك من النقود ما يكفيه في رحلة الذهاب على الأقل.. راح يتحسس جيوبه ثم قال..
” ح أستأذنك.. المره دي.. تدفع لنا التذاكر.. وأنا ح أتصرف في الرجعة…….”
وتذرعت بالصمت وأنا أوافق وأهز رأسي على مضض.. فمالي أنا وأحلامه ومالي أنا ورحلته التي قرر فجأة أنه سيقوم بها في معيتي.. ويا ويلي من قصصه التي سيرويها عن بخلي وعن شحي لكل قريب وبعيد إن أنا قررت أنني لن أدفع له ثمن تذكرته.. بشكل مؤقت ولكن أيضا بشكل كريم فوق العادة في ذات الوقت..
راح يعدل من ثيابه مرة أخرى.. وقال..
” هات اتنين جنيه.. ح أخلي الواد حسنين غفير المحطة يجيب لنا التذاكر.. بدل الزحمة”..
وعلى مضض أيضا وضعت يدي في جيبي.. وأخرجت المبلغ المذكور.. وأنا أتمتم باللعنات على خيبتي إذ لم أستطع أن أمر أمام بيته دون أن يراني.. بينما كان يصف بزهو عجيب كيف أنه سيعود محملا بالمال.. أو أقلها.. سيعود بالجنيهات الخمس الخضراء التي وعده بها الأستاذ ديمتري لوقا.. فكرت أن أقول له..
’ أيها الأبله.. أي إذاعة وأي لوقا.. وأي مال.. وعن أي جنيهات تتحدث‘.. لكنني فضلت الصمت..
عاد ليقص على أنه فكر أن يذهب بالأمس إلى بيت عمه عله يهبه أجرة السفر.. لكن لا.. فكرامته الرفيعة قد أبت عليه أن يفعل ذلك.. فقد سبق أن رفض هذا العم القاسي عديم المرؤة أن يمنحه قروشا زهيدة بحجة تكرار طلباته.. بينما كنت أردد من جديد..
’ إنها طبعا تلك القروض التي لا ترد..‘ تبا لك ولأقاربك ولقروضك..
راح “الأستاذ حافظ” يروي له أن أحد أبطال قصصه قد هاجم بنكا عظيما وسرق أمواله اغتصابا.. وأن نفس البطل كان قبلها قد سرق “قطار الشرق السريع”.. ويبدو أنها كانت كذبة أخرى قد لاحت له للتو فأعجبته الفكرة فراح ساهما للحظات.. ويبدو أنه فكر أن يتوقف ليدونها ثم غير رأيه.. وإن راح يتمتم..
” ليس لدي أحد من مواطنينا البسطاء الفكرة الكاملة عن السلاح الحديث الذي يملكه بطلي.. كما أنني لن أصنع اليوم بطلا مثل جون واين..” بطل فيلمه الشهير الذي رآه مرة في سينما المركز..
ثم عاد ليتذكر كيف حاولت زوجة خاله أن تثنيه عن فكرة السفر.. لكنها أشفقت عليه فأعطته جنيها كاملا..
لكنه ذاهب إلى مصر لا محالة الآن.. إنه يعرف هدفه أخيرا.. وسيجد ديمتري لوقا في انتظاره كما وعده..
وفوجئت بإن “الأستاذ حافظ” قد وقف فجأة.. وراح يتأكد من أن أوراق قصصه مرتبة ومربوطة بدوبارته في شنطته الجلدية.. ثم راح يتأكد من النقود الموجودة في كيسه القطني الذي يطبقه في جيبه.. وخبط على جبهته بكفه ثم قال..
” الله على خيبتك يا أستاذ حافظ.. نسيت جنيه مرات خالي في البيت”..
.. ودون أن ينظر في وجهي.. أو ينطق بكلمه.. حمل شنطته وعاد أدراجه.. ..
التعليقات مغلقة.