“ستارة شيفون وموبايل آيفون” قصة قصيرة بقلم/ د. إبراهيم مصري النهر
في وقت ظهيرة يوم حار وأثناء خروج التلاميذ من المدرسة، وقفت في المحطة أنتظر الحافلة القادمة لأستقلها إلى البيت بعد يوم من العمل الشاق؛ من الصباح الباكر وأنا أقف على قدميَّ أكتب بإصبع الطبشور على السبورة التقليدية، وأمسح ما كتبته بالبشاورة وأنفض يديَّ وملابسي من غبار الجير، برغم وجود السبورة الذكية المعلقة بحائط الفصل، والتي أخبروني أن أكتب عليها بإصبعي، وأمسح ما أكتبه بلمسة إصبع أيضا، إلا أنني من الجيل القديم الذي لا يجيد التعامل مع أجهزة التكنولوجيا الحديثة. من الصباح وأنا أصيح وأكرر تلاوة النص، ويصيح التلاميذ خلفي مكررين، حتى كأن رأسي غدا بالونة على حافة الانفجار.
صادف جلوسي في الحافلة بجوار فتى على حدود المراهقة بزيه المدرسي، يمسك بموبايل آيفون، ويلقي بحقيبته المدرسية على قدميه، ويضع سماعة في أذنيه وهو ينظر إلى شاشة الموبايل حيث فتاة جميلة تنظر إليه، ويغني بصوت خافت وخجول -ربما بقايا شيء من حياء، ربما !- وهي ترد عليه ويتبادلان كوبليهات أغنية نجاة الصغيرة. هو يدندن: ( أما براوة براوة، أما براوة، شباك حبيبي آخر طراوة،…)، وهي تكمل: (قُلة حبيبي ملانة، عطشانة يانا، أروح له ولا، أروح أشرب حدانا،…)
لدرجة أنه حتى أنا داهمني العطش، وتسرب إلى حلقي، ربما استشعرت المعنى الحسي لقلة حبيبها فجف حلقي، ربما!
لكنه لم ينظر إليَّ، كأني طيف عابر، لست هنا، والأرجح هو الذي ليس هنا. رأيت الجفاف على شفاتيه، ولاحظت العطش من نبرة صوته، فهمست لنفسي: حسنا، أنه لم ينتبه إلى وجودي بجواره، فيرتبك ويتوقف عن الغناء، ومن الممكن أن يموت من العطش.
عندئذ ضغطت بسبابتي فوق حاجبي مستدعيا لصور الفتى المراهق التي تركتها في بيتنا القديم.. حيث كنت أقف أمام نافذة حجرتي، وصوت نجاة الصغيرة يتردد خلفي من مذياع تراننزستور صغير: ساكن قصادي وبحبه. جاء أبي بهذا الراديو بعد انتصار السادس من أكتوبر المجيد، لمتابعة نشرات الأخبار وآخر التطورات.
في تلك اللحظة لم أكن أفكر إلا في أشياء تخصني، أن تسمع جارتي شجوي وأنا أردد خلف نجاة الصغيرة: ساكن قصادي وبحبه. أن تهتز ستارة نافذتها الشيفون، وتشف عن طيفها، ثم تنزاح قليلا إلى جانب من النافذة، ليظهر بدر وجهها مبتسما، لكن خاب ظني؛ يدان امتدتا فجأة وأغلقتا النافذة بعنف.
فانتبه أخيرا ذاك الفتى إلى وجودي بجواره، هل سمع صوت النافذة الذي أُغلق في ذاكرتي بعنف؟!
لأجد الإجابة؛ انتبه إليَّ عندما اختفت فتاته هي أيضا من شاشة جواله فجاءة، كما اختفت جارتي خلف شيفون الذكريات.
لحظة تلاقت فيها عيوننا، تبادلنا الابتسامات مع نوبات عطش مرفقة بغصة الخيبات، وكأننا وجدنا نهرا نغترف منه، نهر تشابه النهايات.
التعليقات مغلقة.