“سكينة النفس بين الأوجاع والإبداع ” دراسة نقدية تحليلية لديوان مزاد أوجاع للشاعر مدحت رياض … نقد وتحليل أسامة نور
“سكينة النفس بين الأوجاع والإبداع ” دراسة نقدية تحليلية لديوان مزاد أوجاع للشاعر مدحت رياض … نقد وتحليل أسامة نور
مقدمة :-
إن للشاعر مطلق الحرية في التعبير عن مشاعره وأحاسيسه بالطريقة التي تناسبه ،وتتوافق معها ذائقته ،
وتناسب ميوله ومشاعره ، ولكن يجب أن يدرك أن الأمر لن ينتهي به ؛ فبعد طرحه القصيدة ،أونشرها يتلقفها
المبدعون ،والمتلقون والمتذوقون ،والنقاد ، ويبقى الإبداع والتجديد والالتزام بفنيات وآليات الشكل الشعري ، والتجديد في المضمون ،والتصوير هو الفيصل في تلقى النص والإعجاب به ، فيجب أن يحقق النص الإبداع والإمتاع ..
وشعر العامية يرتبط بالواقع ،ويصوره بدقة ،فهو إنعكاس للواقع ،وآلامه وافراحه ،لذا نجد شعراء العامية ، يستخدمون التشكيل الصوتي والبنيوي ،بالتزامن مع قضايا واقعية عامة فيحدث ذلك صدي للمتلقي وتجاوبًا مع النص ،بالإضافة إلى اللهجة العامية المستخدمة التي يفهمها الجميع ،
ورغم الهجوم على الشعر العامي من بعض اللغويين ،وهذا الهجوم مبعثه حب اللغة العربية الفصحى ،والغيرة عليها وقد أدى ذلك إلى إهمال النقاد لشعر العامية ، لكنني أرى “أن لشعر العامية دورًا كبيرًافي الأدب ؛ فهو أدب شعبي يرتبط بالواقع والناس ،ويعبر عن آلام الأمة وأفراحها ،وقد تطور بفضل شعراء كبار ؛أثروا في حركة الشعر والأدب ،مثل صلاح جاهين ،بيرم التونسي ،فؤاد حداد ،عبد الرحمن الأبنودي ،ونبيه محفوظ وغيرهم ،
وقد تطور الشعر العامي على مستوى الشكل ،فانتقل من الزجل الذي يشبه القصيدة العمودية إلى التفعيلة الواحدة، كالشعر الحر ..
كما أن هناك شعراء يكتبون ( الشعر العامي النثري ) الذي لا يلتزم بوزن معين ..ويقابل ذلك شعر النثر بالفصحى
ومن هنانجد تطور شعر العامية كان متوازنًا مع الشعر الفصيح .
———-؛؛؛؛؛؛———–
**عتبات الديوان “العنوان، الغلاف ،الإهداء”
عنوان الديوان” مزاد اوجاع ” يتكون من كلمتين مزاد خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو ..وحُذف المبتدأ للاهتمام بالخبر ..أوجاع. مضاف إليه …
المزاد هو عرض بضاعة لجمهور من الناس ومن يقدم أعلى سعر يكون له الحق في امتلاك البضاعة ..
وأوجاع جمع يدل على الكثرة ، العنوان مجازي يصور الأوجاع ببضاغة تُعرض فى مزاد ، ورغم أنه عنوان مباشر لكنه مؤثر ..فهو يوحي بشدة الأوجاع وتنوعها ..ورغبة الشاعر
في التخلص منها ، لكن من يقبل هذا النوع من المزادات ؟! من يقبل على شراء الوجع والألم ؟!
فالشاعر هنا لجأ لهذا المزاد لعرض آلامه وأحزانه ،في محاولة للتخلص منها ، فالبوح طريقة للعلاج…لذا قد صاغه شعرًا؛ ليعبر من خلاله عن مكاشفة النفس والاعتراف بالآلام ،والثقة بالله والرضا بالقضاء والقدر..فكان الشعر هدأة للألم ،وبلسم للروح ،وسكينة للنفس ..
لهذا أجاد الشاعر في اختيار عنوانه؛ لأنه يعبر عن حالته ،
ويجعل المتلقي يتماس معها، فمن منا لا يعاني من ألم ..؟!
ويصبر على وجع ..وإن اختلفت الأوجاع فى شدتها من إنسان لآخر ، كما يختلف الناس فى قدرتهم على التحمل والجلد
لهذا فالشاعر يعبر الهم الجمعي العام من خلال همه الخاص
ويتخذ الشعر وسيلة لتحفيف أوجاعه ؛فهو سكينة النفس . ..
**الغلاف لونه أبيض يميل إلى الرمادي
گُتب عنوان الديوان باللون الأسود أعلى الغلاف ..واللون الأسود مناسب للعنوان..لحالة الوجع والأحزان
وفي الأسفل اسم الشاعر ..يقابله يسارًا الناقوس المستخدم في المزاد ..يتوسط ذلك صورة غلام مبتسم بعينين لامعتين تشعان سعادة ..
وهنا يتساءل من لايعرف الشاعر ..ويرى الديوان ماعلاقة الغلام بالديوان؟! ..فيتوقع أن يكون هذا الغلام من أسباب أوجاعه .أو هو كل أسبابها ..
ومن هنا الغلاف متناسق مع العنوان ، يجذب القارئ..
**ثم نجد الأهداء
“إلى بعض من روحي
سبقني وأتمنى من الله أن يكتب لي اللحاق به في الجنة
إلى من أخذ معه تلك الابتسامة الراضية وصفاء الكون في عينيه ..إلى ابني الحبيب” أحمد مدحت “
إهداء ورثاء ..وهنا يتأكد القارئ أن صورة الغلام التي على الغلاف هي لابن الشاعر الذي رحل عن دنيانا ولم يرحل عن دنيا والده ..فما زال يراه ويناجيه ..ويتلمس خطاه ..
ماأصعب الفقد !..وخاصة عندما يكون عزيزًا لدينا ..هنا يتبلور سبب الأوجاع وشدتها…
———؛؛؛؛؛؛؛؛——–
**من حيث الشكل..والتجربة الشعري واتجاهات الديوان “
ينتمي ديوان ” مزاد أوجاع ” إلى شعر العامية المصرية ..التي تتميز بالبعد الواقعي الفلسفي ..وبالصور الطريفة ..والتناغم الموسيقى …والتشكيل الدرامي ..ونجد ذلك فى الديوان…
يتكون الديوان من (إحدى وأربعين) قصيدة …تعبر عن أوجاع
الشاعر وآلامه…وقد استخدم الشاعر اللهجة العامية ؛ليعبر بها عن أوجاعه ..لكنه استخدم العامية الراقية…فى إطار من الموسيقى المتناغمة الشجية الهادئة ..التي تناسب الحزن
والحوار الداخلي ومناجاة الابن ..في محاولة للوصول إلى سكينة النفس…
نحن أمام تجربة شعرية واقعية مؤلمة …يحزن ويبكي أمامها كل إنسان .فما بالنا بشاعر هو نفسه صاحب المأساة ،..
فراح يعبر عن أوجاعه شعرًا ، يصور الماضى والحاضر ،وما كان يتمناه لابنه في المستقبل ..يعدد صفات الابن ..مراحل حياته ..وكل لحظة اجتمعا فيها …وحالة الشاعر بعد رحيل الابن جسدًا ،لكنه بقى روحًا محلقة بنفس الابتسامة الصافية التي نراها على الغلاف …فمازال الابن يعيش داخل الشاعر
وخارجه …وفي ذلك يقول الشاعر :-
في الحلم أهي روحك بتجيني
وتطبطب على عمري الباقي
وساعات على ناس بتوصيني
وساعات بتلملم أشواقي
لما احضن قلبك واتمنى
الحلم يطول عمر بحاله
ويقول :-
م الليل لليل أنا بستنى
وبشوفك كملاك فى الجنه
والضحكة على جبينك آيه
وبقوم من نومي ومطمن
وكأنك فى الفرشه معايا .
ونجد في الديوان عدة اتجاهات عبر عنها الشاعر منها :- ١-تصوير الحزن والوجع وتأثير ذلك عليه :-
“من رحم الألم يولد الإبداع ” لذلك نجد الإبداع الشعري ممزوجا بشدة الألم وصورة الفقد ، وتأثير ذلك على الذات الشاعرة ،وأثرها في الحياة ..
وفي ذلك يقول الشاعر :-
ياحضرة العمر العفي
أنا مكتفي منك بيوم
أصلي فيه آخر صلا
وادعي لربي بمسأله
يجمعني بيه
وأضمه لو هصبح عدم
صدقني لو عشت الألم
هتشوف بقلبي اللي اتحرم
وتحس لو قلبك جبل
إن الحياه من غيره شيء
لا يحتمل
واليوم في آخره وأوله
مفهوش جديد
والصبر مهما اتحمله
بركان يزيد..
٢- استحضار صور الابن ومناجاته..
يشغل ذلك الاتجاه مساحة واسعة في الديوان ،فلا تخلو قصيدة من ذكر الابن ومناجاته …
ومن ذلك :- قصيدة “وحشتني “
رنيت على رقمك ميت مره
وانا شيله في جايبي الوراني
بتخيل م الوحشه ياعمري
هترد وتسمع أحزاني
أو مره هتبعتلي رساله
وتطمن عمري ووجداني
ونجد ذلك في قصيدة ‘ أنا حسيت بيك “
كان اصعب يوم
لما ندوني وقالو لي أجيك
والقلب الحاسس بقى شايف
ليه خوفه عليك
هو انت ناديت يومها عليا
وعمضت عنيك
ولا اتمنيت لمسة إيدي
تفضل ف إيديك.
ونجد استخدام ضمائر المخاطب أنت وكاف الخطاب ، وكذلك
ضمائر الغائب هو وهاء الغيبه ..ونجد الحوار. التخيلي بينه وبين الابن
وتوجيه الحديب للأ ..واستخدم ضمائر المتكلم أنا ..احنا
تاء المتكلم…ومن ذلك قصيدة :-” ملاك فى الجنة ” حيث يقول :-
اوصف لي الجنه دي لو تعرف ..؟
احكيلي وقول
ما اطمن قلبي اللي ليلاتي
ديمًا مشغول
ثم يصف الابن بعض ما يراه في الجنة ؛ ليطمئن الأب ويرجوه أن يطمئن أمه ..فيقول في مشهد مؤثر :-
مليانه مليكه بياخدوني
وبيرشوا النور
وبترسم بالحنه كفوفي
لبنات الحور
وتحلجل ضحكة ومن قلبى
أنا هنا مبسوط
انا عايش بالخير والرحمه
وقلبي المجبور
ما اتطمن قلبك يا أبويا
ديمًا وارتاح
روح طمن أمي وعرفها
دي الجنه براح ..
——————::
٣- الايمان بالله والرضا بقضائه وقدره:-النزعة الإيمانية “
رغم شدة المصاب ،لكن تسيطر على الشاعر وديوانه النزعة الإيمانية المتمثلة في الرضا بالقضاء والقدر ، والصبر والجلد
والثقة بالله سبحانه وتعالي ” وقد قال الله سبحانه وتعالى “
وبشر الصابرين ” …وقال رسوله الكريم “.إنما الصبر عن الصدمة الأولى “
وما يزيد رضا الشاعر. ثقته بأن ابنه في أفضل مكان إنه في الجنة إن شاء الله….
ويظهر ذلك في قول الشاعر :- على لسان ابنه فكان المشهد أكثر تأثيرًا:-
أنا أجر ومشتال مع ربى
في الجنه متاع
أنا هاخد إيدك يا حبيبي وتعدي الباب
والجيرة الشهدا وناس صالحه
هما الاصحاب
ولأمي الرحمة المكتوبة
في الدنيا قبول
والجنه جزأها من المولى
وأن شاالله تنول
سلم لي على الكل
وأغلى الغاليين
الشهداء بإذن من المولى
ديمًا حايين
٤- فلسفة الحياة والموت عدم الاستسلام للحزن
وهذا الاتجاه يشغل الناس بشكل عام ، ولكنه يشغل الشعراء ويسيطر على جل تفكيرهم ..فلانجد شاعرًا قديمًا أوحديثًا لم يذكر الحياة والموت في شعره ..
ومن يقرأ شعر( لوركا) الشاعر الأسباني يجد ذلك جليًا في شعره وفي رأيي” كل شاعر فيلسوف ،وليس كل فيلسوف شاعر “
لكن شاعرنا شهد موت ابنه فكان الوقع أشد والفلسفة واقعية
والمشهد أعمق وأكبر ..
ويظهر ذلك في قول الشاعر :- في قصيدة” تتكبر ليه “
مغروره على ايه
والأصل تراب ؟!
والشعر إن شاب
هتميّل غصب تبصب عليه
ثم بقول :-
يا ما اكتر منك صحه وجاه
ادفنوا شباب
متكبر ليه على خلق الله
ما القصة تراب بيلم تراب
٥- المشهدية والدراما داخل الديوان .
نلحظ المشهدية والدراما داخل الديوان ..وقد ساعد على ذلك استخدام اللهجة العامية المتفصحة وخيال الشاعر. وانعكاس آلامه الداخلية على الواقع ..ونقل المشهد بحرفية وبصور مؤثرة ..
ومن ذلك قولة :-
مشهد الرحلة الأخيرة
البشر أعداد كبيرة
جايه بتودع صباك.
ما انت غبت وسبت سيره
خلت الأفواج.مسيرة
ينفرش برهم خطاك
———-؛؛؛؛؛؛؛؛———
**من حيث اللغة والأساليب والموسيقى “
كتب الشاعر ديوانه باللهجة العامية لكنها العامية الراقية المتفصحة السلسة ..واستخدم الأساليب الخبرية للتأكيد والتقرير كما استخدام الأساليب الإنشائية ..كالاستفهام بأغراضه ،والنداء والأمر والنهي ..
وكان لهذا أثره في جذب المتلقي ..
جاءت الموسيقى شجية متهادية تناسب الحالة ..والمناجاة الذاتية ،او المناجاة التخيلية بين الشاعر وابنه ..
ونلحظ ذلك فى :-
الفرق ما بينا
إن انت سبقت
بدون إنذار
وأنا بعدك بحسبها وعارف
إن الاعمار كما دار يندار
وهجيلك وهنحكي وأسمع
ايه فاتني وفاتك م الأيام
ولحد مايحصل أنا صابر
وبكمل عمرك في الأحلام
———-؛؛؛؛؛؛؛؛؛————
** فنيات الديوان وملامح التجديد فيه “
اتسم الديوان برقى اللفظ ودقته ، وبالصور الحية الموحية
المزوجة بالرمزية والتناص ، بالحركة والتناغم الصوتي …بحالة مؤثرة
تتحول في بعض الأحيان إلى فلسفة ورؤية ، يجمع بين البعد العاطفى في أوج.صوره وبين البعد الذهني .. نجد الموسيقى الشجية ..والدراما ،والبعد الفلسفي ..والصدق الشعوري
مما جعل المتلقي يتماس معه ..ويتأثر به ..
ونجد التجديد فى الديوان حيث نجد البعد الحداثي ، والمشهدية ، واستخدام أدوات العصر ،
ابتعد الشاعر عن القافية الموحدة في كثير من قصائده ..فجاء الأسلوب سلسًا
ودل ذلك على شاعر مطبوع ..
رغم أن الديوان تجربة وحالة واقعية لكن الشاعر نوَّع فى عرض قصائدة ..ونوع في الأسلوب والحوار ..مما جعل كل قصيدة قائمة بذاتها لا تشبه غيرها ..وإن كان يجمعها خط الحزن والوجع ..
نجد أنسنة الأشياء والحوار معها ويظهر ذلك في قصيدة أنا وقلمي فيقول الشاعر :-
حضرة جناب المحترم قلمي الحزين
من فينا حقه يلوم في مين ؟!
مِين شق من لحظة عتاب
انهار دموع
مين كل مره في سكتي
يقفل ف أبواب الرجوع
مين في الألم يبرئ الجروح.
مين في الفرح يهرب بخوف
مين مستخبي ف حضن مين ..
** نجد النفس البشرية بأنواعها في الديوان ،تتمثل في شخص الشاعر الإنسان ، مما يدل على محاولة ارتقاء النفس وسموها رغم ما مرت به من محنة عصيبة ..
*فنجد النفس الأمارة بالسوء” النفس الإنسانية”
فيقول :-
وبرغم ذلك.
كنت مقتول م الظنون
يمكن اكون أصلًا غلط
ما انا مش ملاك
ومنيش كمان شيطان رجيم
واذا كنت من جنس البشر
فانا مش سليم
*ثم تظهر النفس اللوامة ..فيقول الشاعر :-
“أنا نفسي بتلوم نفسها
ف كل الحالات
أنا زهره عطشان قلبها
والغصن مات “
*ثم تتجلى النفس المطمئنة:-
،الراضية بقضاء الله بن وقدرة الواثقة بالله سبحانه وتعالى..وفي ذلك يقول الشاعر :-
الكل عيوب بس الميزه
لو تفهم نقصك وعيوبك
هتقرب م المولى بقلبك
والمكسب لو يمحي ذنوبك
** من مميزات الديوان الإيجاز ،ودقة التعبير ..فلم يستسلم الشاعر للحالة والتداعي اللفظي ، بل قبض على الحالة وطوعها شعرًا سلسًا يشع روحًا وحركة ، وصورًا سمع مرئية
جعلت المتلقي يتجاوب معها ..فبدأ. شعره من الواقعية وحالة الوجع والألم إلى الرضا وسكينة النفس ،وسمو الروح …
———-؛؛؛؛؛؛؛————-
تبقى من وجهة نظري :-
**في الإهداء نجد كلمة” اتمنى “والتمنى يعبر عنه مثل” ليت ” شيء يصعب حدوثه ..فالافضل استخدام” أرجو” فالرجاء ما يعبر عنه مثل “لعل ” يعبر عن شيء يمكن حدوثه..
**جاءت بعض القصائد.مباشرة …. السبب سيطرة التجربة الواقعية المؤلمة ، وحالة الحزن على الشاعر …
———؛؛؛؛؛؛؛———
ديوان يستحق القراءة ؛جمع بين الحالة الإنسانية ورقي الشعر وفنياته …لشاعر مطبوع يعرف قيمة الشعر وأهميته
اتخذ الشعر سكينة للنفس..يعبر به عن الأوجاع والإبداع ..
تحياتي أســامــة نــور
التعليقات مغلقة.