سيكولوجية الثورات المصرية …د.أحمد دبيان
سيكولوجية الثورات المصرية …
د.أحمد دبيان
ربما كان الطبيب الفرنسى الكبير جوستاف لوبون رائداً فى توظيف تخصصه فى الطب النفسى ليستخدمه فى التحليل السيكولوجى للتاريخ .
كتب الدكتور جوستاف لوبون كتبه عن سيكولوجية الثورات وسيكولوجية الجماهير وسيكولوجية الإشتراكية .
ورغم ان الدكتور لوبون فى التصنيف الإيديولوجى يظل محافظاً أو رجعياً فى التحليل الا انه كان رائداً فى هذا المنحى التحليلى .
يرى لوبون ان الثورات تحدث و مع نبالة الشعارات المعلنه من قبل النخبة البورجوازية الا انها ومع الجماهير تكون بسبب الحرمان ومشاعر الحسد والحنق الذى تتحول معه امواج الدوافع المتباينة للمحركين الذين ألقوا بشعاراتهم الجذابة فى أمواج الجماهير لتتحول الأمواج الى طوفان هادر لتتصاعد اختلالات الكتلة الحرجة لأوهى الأسباب فتكون الثورة التى تعصف بكل شئ .
تصبح الثورة بشعاراتها لدى الجماهير دوجما وتصبح شعاراتها عقيدة ويقين لا يقبل النقاش .
ومع نجاح أى ثورة تتجمع مصالح المضارين أو المتحفظين على التعصب ليولد فى الإتجاه المضاد ثورة تقاوم هذا التغيير العاصف الذى حدث يسميها الكثيرون بالثورة المضادة ولننتهى الى كل آليات التعصب والدوجما لدى كلاً من الثورتين .
فيتبنى اتباع الثورة والثورة المضادة سيكولوجيات العقيدة الدينية فى التعاطى المتطرف لتشويه الآخر وإستمطار اللعنات عليه دون تحليل علمى أو حيادى لحركة التاريخ ودوافع الحدث .
قام جوستاف لوبون بتشريح الثورة الفرنسية بهذا المنحى السيكولوجى فكانت كتبه التى ذكرناها فى صدر المقال .
فى تاريخنا لم تسلم الثورات المصرية من هذا المنحى المتطرف فى التعاطى والتأويل من محركى الثورات ومتعاطى دفوع الثورة المضادة .
ربما ولدت الثورات المصرية منذ فجر التاريخ فينبئنا جيمس بريستد فى كتابه فجر الضمير .
وإذ اصمت الدولة آذانها عن شكاوى المهمشين والفقراء ،دأب الفلاحون على نهب مخازن الغلال ، وانضموا الى الحرفيين ، فهاجموا دوواين الحكومة وخربوها وأحرقوا ما بها من سجلات تتعلق بقوانين جائرة استنتها الدولة .
ثم استهدف الثوار قصور الأغنياء فنهبوها ،
( وناح الأشراف ، أما المعدمون فامتلأت قلوبهم بهجة )
وأصبح الفقراء أغنياء ،
( فمن كان يستجدى الشراب أصبح يشرب الجعة والذى لم يكن يملك رغيفاً اصبح مالكا لمخزن من القمح )
واصفاً واحدة من ثورات المصريون القدماء المهمشين ضد الإقطاع وجور القوانين .
ولتخضع هذه الثورة لنفس المنطق التحليلى السيكولوجى من فئة قليلة جداً مسيطرة على كل الموارد مع قطاع عريض مهمش لا يلقى الا الفتات يظل صابراً مع تصاعد مشاعر القهر واليأس والحسد وفقدان الأمل فى أى منحى سلمى للتغيير لينتهى الى نقطة الإنفجار بعد تنامى المنحنى ليصل الى كتلته الحرجة عددياً فتكون الثورة الطوفان .
دائماً ما تنحى السلطة القائمة الى تبنى فقه الثورة المضادة التى تضررت مصالحها بالثورة الأساسية والتى تجد فى الانتهازيين وقناصى الفرص ممن حققت لهم الثورة الأساسية بعض الدفع للصعود لتتوافق مصالحهم بعدها مع كل سيكولوجيات ودوافع الثورة المضادة ، فلن نجد فى التاريخ الرسمى الرسمى المدون سوف إشارات لاعنة هنا وهناك عن الثورات الأساسية مع نعتها بكل مسبة وتحقير ولعن ولا بأس من توظيف الدين الكهنوتى الرسمى آمونياً فرعونياً أو مسيحياً أو إسلامياً وتوظيف النصوص أو تخليقها لإستمطار اللعنات ووضع الثورة فى خانة التابوهات والتحريم.
فى التاريخ المدون الرسمى فى العصر الحديث والذى تم تجييش المؤرخين له من قبل الأسرة العلوية فى عهد الملك فؤاد كان التعاطى مع الحراكات والثورات المصرية التى حدثت فى المائتى سنة الأخيرة سلطوياً موجهاً أيضاً ، ما جعل الكثير من النصوص التى تم تجميلها أو النصوص والوقائع التى تم تنحيتها وتهميشها تصب فى تمجيد الحقبة كلها ولعن كل من يحاول ابراز تجاوزاتها الفادحة .
فمن ثورة الشيخ أحمد عبيد وابنه الشيخ أحمد الطيب السلمى فى قاو فى الصعيد والتى قامت بالأساس ضد تهميش الشعب وتأميم الحيازات الزراعية وفقاً لقانون الإحتكار ومنح الأراضى للأجانب فى عهدى الوالى محمد على والخديوى إسماعيل ليأتى الشيخ الطيب وثورته بإعادة توزيع الأراضى على الفلاحين فيتم نعته بعد سحق الثورة بالشقى الخطير ويتم وصفه فى الوثائق الحكومية بأنه شقى من مطاريد الجبل .
جاءت ثورة عرابى نتيجة للوعى والتعليم وتصاعد البرجوازية المصرية مع احساس طاغٍ بالظلم نتيجة للتفرقة بين الضباط الشركس والمصريين الذين تم تجميد ترقيتهم بحيث ان ضابطاً طبيبا ظل على رتبة الملازم مدة عشرين عاماً ، ولتتلاقى مطالب الضباط الثائرين مع الجماهير التى كانت تعانى من الأزمة المالية التى أعقبت استدانة الخديوى إسماعيل وعزله وتعيين المراقبين الأجنبيين وليتم فرض الضرائب الفادحة على التجار والحرفيين المصريين مع بقاء كل مميزات الشركس والأجانب ، ولينتهى المشهد الى تحرك الفئة النخبوية الممثلة فى عرابى ورفاقه لتتصدر المشهد ولتنضم لها الجماهير .
رغم النجاح الأولى لعرابى ورفاقه وتحقيق مطالبهم الفئوية لم يتخلى عرابى عن الجماهير وظل يسعى فى موقعه لتحقيق الدستور وتحجيم سلطات الخديوى وتحقيق نوع من الدفع والعدل الإجتماعى .
نلحظ هذا فيما جاء ببعض خطبه :
لقد أنقذناكم من يد من لم يعرفوا لكم حرمة ولا يعترفون بحق، ولا يرون أنكم مثلهم من بني الإنسان وأنتم الآن مهيئون للانتخاب فلا تميلكم الأهواء والأغراض لانتخاب ذوي الغايات، بل عولوا على الأذكياء والنبهاء الذين يعرفون حقوقكم، ويدفعون المظالم عنكم ويفتحون باب العدل والإنصاف في بلادنا.
نجحت الثورة المضادة التى استدعت المحتل الأجنبى كما حدث فى كومونة باريس فى سحق ثورة عرابى والتى تحدث عنها اللورد كرومر فى كتابه مصر الحديثة قائلاً :
( لو خلينا ما بين هذا الثائر وثورته ما كان أحد ليوقفه .)
وليأتى التدوين التاريخى الرسمى لثورة عرابى مستمطراً عليها اللعنات .
جاءت ثورة ١٩١٩ مختلفة فهى ثورة جماهيرية حركتها البورجوازية المضارة من تفتيت الثروات كان لوالد سعد زغلول قرابة الثلاثمائة فدان تفتت بالميراث لتتلاقى مصالحها مع الرأسمالية المضارة من الإمتيازات الأجنبية والإحتلال ، وليتم استغلال الطوفان الجماهيرى الذى أدماه الإحتلال ومذابح دنشواى وفقدان أكثر من ستمائة ألف من أبنائه فى الحرب العالمية الأولى بتجنيد مباشر من السلطة البريطانية لجيوش بلغت حوااى المليونين من العمال يعملون فى شق الطرق والمجهود الحربى وليقضى حوالى ستمائة الف فى اوروبا وفى الأرض المجهولة فى البلقان والسوم .
كانت مطالب الاستقلال من المحتل الغاصب تهدر يحركها تنظيم عسكرى صارم من قبل الضابط السابق عبد الرحمن بك فهمى والذى ربما ارتأى ان تصدر ضابط مرة أخرى بعد سحق ثورة عرابى ربما لا يكون محبذاً تاركاً الصدارة لنخب الأعيان والرأسمالية المضارة ، وليتم العبث بعدها بطموحات الجماهير ولتنتهى الثورة بتسيد الثورة المضادة المدعومة من المستعمر والقصر وليتم تهميش الثوريين الحقيقيين وليتم استغلال المد الشعبوى الجارف للوفد فى خداع الجماهير ولتنتهى الحياة السياسية الى احزاب متصارعة صار وجودها داعماً فعلياً للمحتل وللقصر الملكى.
جاءت ثورة ١٩٥٢ بعد فقدان الأمل فى قدرة الحياة الحزبية التى تم إختراقها من قبل الإحتلال والقصر ولننتهى الى ترسيخ داعم للإحتلال انتهى بأن أتى الوفد الى الحكم على فوهات الدبابات البريطانية وليفقد الشعب تماماً الأمل فى الأحزاب وممثليها.
جاءت الثورة بتصدر مجموعة من الضباط مهمومين بالشأن الوطنى منهم من كان من اصول ارستقراطية مثل المشير عبد الحكيم عامر والسيدين زكريا محيي الدين وخالد محيي الدين ، ومنهم من كان من ابناء اسر متوسطة .
ورغم حدوث الأمل فى دفع اجتماعى بدخولهم الكلية الحربية حين ضغطت بريطانيا على الحكومة المصرية لزيادة أعداد قبول المتقدمين فى الكلية الحربية والتخلى عن شروط كشف الهيئة والأصل الإجتماعى لخدمة المجهود الحربى البريطانى والحرب العالمية الثانية تطرق الأبواب .
كان مقدراً لكل ضابط من الضباط الأحرار ان يحدث الصعود الإجتماعى من وظيفته ومع ترقيه الى الرتب الكبرى ، فتحليل الدافع للثورة بحقد إجتماعى كما يتم نعت الثورة ودوافعها من قبل المضارين من عناصر الثورة المضادة لا يستقيم بحال .
تحرك الضباط الأحرار مدفوعين بنوازع وطنية وجلهم من الطبقة البورجوازية ولكن بانحيازات للعدالة والجماهير مدفوعين بحنق وسخط من وجود المحتل وفساد الحياة السياسية والقصر .
وبالتحليل السيكولوجى نستطيع تنحية عوامل الحقد أو الإنتهازية عن الكثير منهم ، ولنستطيع مطمئنين ان نجد ان الدوافع الوطنية فى الاستقلال كانت المحرك الأساسى للقطاع العريض منهم وليأتى الإنحياز الإجتماعى كعامل متأخر لم يجد صدى الا عند الزعيم جمال عبد الناصر والبكباشى يوسف صديق والبكباشى خالد محيي الدين .
قامت الثورة لتطيح بالعرش الذى أتى به الإنجليز ترسيخاً لملكية متعاونة ولتنضم الجماهير التى عانت من التهميش والفساد وفقدان العدالة التى تجلت فى قرية بهوت وجبروت الإقطاع ممثلاً فى البدراوى عاشور وصهره فؤاد سراج الدين واقتلاع اعين الفلاحين بل والقتل المباشر فى احداث بهوت التى تم الإلتفاف عليها واختزالها ومنع ذكرها بعد تسيد اعلام الثورة المضادة المتحالفة مع العناصر الإنتهازية والتى نجحت فى انقلاب سلطوى فى ١٥مايو عام ١٩٧١ ولتتسيد المشهد بعد نوفمبر ١٩٧٣ .
كان الإصلاح الزراعى أولى تجليات الإنحياز الإجتماعى للثورة ليأتى حل الأحزاب المرسخة لتواجد المحتل ليتم خلخلة دعائمه ولننتهى الى طرد المحتل ذاته والجلاء بعد قيادة الثورة لكتائب التحرير ومعاركها فى القناة مروراً بتمصير البنوك ومركزية الإقتصاد بعد قرارات يوليو الإشتراكية عام ١٩٦١.
ظل انحياز الثورة للجماهير التى كان منها من انتفعوا بحراك ثورة يوليو الاجتماعى بسيكولوجية الحقد والدوجما التى تحقق بها الدفع الاجتماعى ليلتفع البعض منهم الذين تم تصديرهم فى المشهد العبثى المضاد بدئاً من عام ١٩٧٤ وليتم التحالف والإنقضاض من عناصر الثورة المضادة والعناصر النفعية ولننتهى الى انقلاب تام على ثورة ٢٣ يوليو وليتم استمطار اللعنات على الثورة ومنجزاتها من قبل اعلام الثورة المضادة المتحالفة مع عناصر البورجوازية الانتهازية المنتفعة بنفس سيكولوجية الدوجما والمعتقدات الدينية المتعصبة دون اى سند علمى أو تأريخى معضد اللهم الا اختزال المشهد بالتواءات تاريخية مبتورة تتعاطى نفس التاريخ الموجه الذى دونته الأسرة العلوية تجميلاً لسيرتها بمباركة المحتل الذى وضع نظامها الملكى ليعضد وجوده وسيطرته على مقدرات الأمة المصرية ويستخدمها اليوم استمطاراً للعن الأفكار التحررية التى صاغتها ثورة يوليو كى يمنع هذه الأفكار من تهديد مشاريعه التبادلية .
التعليقات مغلقة.