سيكولوجية المرأة والمجتمع في ” نسائيات ” منى منصور …رؤية الدكتورة آمنة الهجرسي
عندما نفقد القدرة على تحقيق التوافق المجتمعي ولا نجد أنفسنا مع أقراننا في المجتمع نصاب بحالة من الصراع الداخلي والشعور بالاغتراب النفسي … فنحن نعيش في مجتمع فرضت واقعه علينا الظروف والأقدار و بالتالي نحن مجبرون على الاستمرار طالما تنبض قلوبنا وطالما تمارس أجسادنا عملية الشهيق والزفير … نشعر باختلال شديد تولده الصراعات المحتدمة بين المبادئ والقيم التي نعتنقها من جهة ومتطلبات ( التعامل المجتمعي) على أرض الواقع من جهة اخرى ، فهناك فجوة كبيرة جدا بين رغباتنا الآدمية وطموحاتنا الطبيعية – كبشر – وبين ما توفره البيئة المجتمعية بكافة مجالاتها من إمكانات … وهناك أيضا قوى مجتمعية متحكمة تخضع منظومة المجتمع لتحقيق رغباتها أولا…. فالحقائق في عصرنا الحديث تؤكد على أن الفارق الكبير في مجتمعاتنا العربية بين طموح المرء وبين ما هو متاح وممكن يأتي من الإعاقات ووضع العراقيل ومحاولة التحكم في الإمكانات وليس عن نقص فيها …
أيضا هنالك هوة سحيقة بين المعتقدات وبين فهم الحقائق الكامنة في هذه المعتقدات ، والأسوأ من ذلك هو أن الأخطاء الفادحة المترتبة على سوء الفهم والتنفيذ شوهت حقيقة المعتقد وأظهرته في صورة مشوشة وباهتة يختلط فيها الحق بالباطل في أحيان كثيرة ؛ لأن الذين يميلون إلى هكذا صورة إنما يخدمون أغراضهم الشخصية وأهدافهم الخاصة التي تتعارض – بالتأكيد – مع حقيقة المعتقد القائمة على الحق والعدل وكل ما هو جميل ومتسامح … أمثال هؤلاء من الجهلاء– دينيا وبالتالي فكريا – في المجتمع يسوّقون لما يعجبهم ويتركون ما يعجبهم كما أخبرنا رب العزة .. وهم كثر وفي الوقت نفسه قدماء جدا ، بمعنى أن هذه الحالة – أخذ ما يعجب وترك ما لا يعجب – قديمة جدا يزاولها الجهلاء منذ قرون والذي ساعد على استمرارها هو وضعية ( العصبية القبلية) فيما أرى ؛ فالعربي منذ القدم يتعصب لقبيلته ومن ثم لمحيطها ومن ثمّ للفيافي والقفار التي توصله إليها وهكذا …
ووفقا لما سبق فالآراء والأفكار التي تضعها الجماعة في هذه القبيلة ستكون محل قبول وتسويغ بل ومحط فخر وتباهٍ كبيرين وهذه الخصال من أكثر الخصال التي يتوارثها العرب جدٍّ عن جد وأحفاد عن أحفاد … ولهذا السبب نجد أن العائلات في المجتمعات البعيدة عن واقع المدن في عصرنا الحديث لا تزال تعلي من قيمة ( العادة والتقليد ) خضوعا لجينات العصبية القبلية المتوارثة ، بل وتحملها معها حتى وهي تحاول الارتقاء وارتداء ثوب المدنية والتحضر فهي إذن مدنية مقنعة تعتني بالمظهر وتخفي تحت ثيابها وزخرفها نفس العادات والتقاليد المتوارثة لأنها اتخذت صفة القدسية ومخالفتها تعني الوقوع في إثم ( الجريمة) .. جريمة مخالفة المعتقد والتعدي على قدسيته ..
كيف يخضع الإنسان لقرآن ( العادات والتقاليد ) ؟
إن الإجابة على السؤال السابق ستجعلنا نعود للبحث في ظروف التنشئة المتعلقة بكل فرد من أفراد المجتمع ، والبحث في مرجعية النظام العائلي ودراسة الأفكار والمبادئ التي يتبناها كل نظام ومن ثم المحافظة عليها وتوارثها وتعديلها فيما بعد بما لا يؤثر على الأطر الرئيسة لكل فكرة أو مبدأ وفقا لأهواء الكبار ” السلطة الأبوية ” في كل عائلة أو نظام عائلي ..
هذه المبادئ والعادات أو الأصول المتبعة كثيرا ما يستمدها أصحاب السلطة الأبوية في صورتها الأصلية السليمة دون تغيير في بداية الأمر ، ثم يقومون بإجراء التغييرات أو التعديلات التي تناسبهم بعد أن يتأكدوا من عدم وجود معارضة .. فأنت مثلا لا يمكنك معارضة والدك أو والدتك احتراما لمكانتهما الكبيرة التي منحهما إياها الدين وبالتالي ستخضع لآراء أحدهما أو كليهما دون أدنى معارضة .. والكبار في كل نظام عائلي يستغلون سلطة احترام الصغير للكبير بشكل خاطئ ويفرضون آراءهم وطرق الحياة التي يرغبون بها على سائر أفراد النظام وهكذا … ومن هنا يأتي التشويه في الأفكار المتوارثة والعادات وبمرور الوقت تتحول إلى أعباء ثقيلة جدا على ظهور الأفراد كعادة الثأر والانتقام وكعادة تزويج الفتيات لأقربائهم بغض النظر عن السلبيات التي تظهر بوضوح في نتائج هكذا زواج كما سيأتي بيانه في رواية ” نسائيات”..
يقول الدكتور يوسف مراد : ” من الحقائق الثابتة عقلا وتجريبا أن البيئة الوحيدة الملائمة لنمو الطفل الجسمي والنفسي ولتنشئته الاجتماعية هي البيئة العائلية..”() وعليه فإن الخلل الذي يصيب أي كيان مجتمعي أو نظام عائلي ستنعكس آثاره على جميع الأفراد الذين ينتمون لهذا النظام ويكونون فيما بعد كيانات أسرية منبثقة منه …. فما بالنا بالمرأة؟
ويقول فرويد : ” إن تحقيق التوازن لدى المرأة أشق بكثير من تحقيقه لدى الرجل ، وإن أمامها ثلاثة طرق أحدهما هو الطريق السوي المؤدي إلى الأنوثة الواضحة المستقرة غير أنه أشق طريق مسلكاً أما الطريقان الثاني والثالث ففيهما شذوذ واعوجاج فإما تشويه الخلق بتغلب مشاعر الرجولة على الأنوثة أو كفّ النشاط الجنسي وكبته وفصله عن الوظيفة التناسلية . ” ()
إن مضمون العبارة السابقة – في رأيي – هو ملخص الفكرة الرئيسة لرواية ” نسائيات ” للروائية منى منصور حيث قدمت الكاتبة شخصيات نسائية متنوعة من مجتمع المدينة السّكندرية لتعكس لنا طبيعة الحياة المفروضة على المرأة في عصرنا وكيف أن الظروف المجتمعية السيئة كفيلة بتغيير بوصلة الفطرة التي جبلت عليها المرأة ومن ثمّ تعرضها لعدد من التشوهات النفسية التي تنعكس آثارها السلبية ليس عليها فقط بل وعلى على جميع المرتبطين بها والمخالطين لها في بيئتها صغارا وكبارا …
العنوان :
في “نسائيات” العنوان شديد الخصوصية نلاحظ أن المؤلفة تنبه قارئها إلى أنه مقدم على قراءة محتوى شديد الخصوصية .. متعلق بالنساء في المقام الأول ، بأحوالهن وأنماطهن ..طبائعهن وعلاقاتهن بمن حولهن في المجتمع والبيئة المحيطة بكل واحدة منهن والأهم من ذلك ستلقي الضوء على أشد أنواع الصراعات الداخلية في وجدان أي امرأة ” حقيقية ” وأكثرها ازعاجا وتمردا ؛ لأنه – كما سيلحظ القارىء – صراع ينزع إلى المواءمة بين متطلبات وقوانين المجتمع والبيئة المحيطة من جهة وبين التكوين الطبيعي لهذا المخلوق الذي هو ” امرأة” قبل كل شيء … لماذا المواءمة ؟! لأن طبيعة البشر نزاعة دائما إلى الشعور بالانتماء والحصول على رضا الجموع المكونة للمجتمع في محيط كل واحد منا … لكن إذا عانى المجتمع من خلل فكري ما في وضع أفكاره ومسوغاته التي يحبذ التعامل بها سينعكس ذلك على الأفراد أصحاب الطبيعة الخاصة في التفكير والقابلية للتوجيه .. هؤلاء نسميهم في بعض الأحيان ” بالمتمردين” ….ولهذا التمرد عدة وجوه فيما سنلحظ في أحداث الرواية ما بين منحرف ومدمر وما بين محمود متحير ستفضي به الضغوطات الشديدة إلى الاستسلام واللامبالاة في أقسى صورها …
روح : (المثقفة المتمردة ):
بطلة هذه الرواية امرأة تدعى ” روح ” وهي تعيش في مجتمع يعلي من قيمة العادات والتقاليد التي لا تقبل الكسر ليس من فرط مصداقيتها ومناسبتها لأحوال كل الناس بل من فرط ما تشدق بها المتشدقون وآمنوا بها وفرضوها على أنفسهم وتأثر بها من جاءوا بعدهم … الأنثى بداخلها تتوارى كأنها خطيئة فترتسم معالمها في عالم مكون من سجنين الأول سجن النفس والثاني سجن ” الحبس في مركز الشرطة “وسنكتشف ونحن نقرأ الرواية أن السجن الأول أقسى من السجن الثاني وأنه يؤرق البطلة ويتغذى على روحها ونقائها كإنسانة عبر سلسلة الذكريات المؤذية التي تلح عليها إلحاحا مميتا … لقد وصلت “روح ” إلى مرحلة مؤلمة من الاستسلام واللامبالاة والاكتفاء بمشاهدة ومتابعة أحوال النزيلات في ” التخشيبة” دون إبداء رأيها في أي شيء .. لقد كانت لمدة ثلاثين عاما كما نبهتنا المؤلفة تعتنق المبادئ والأفكار الداعية إلى الحرية والعدالة ..
لم تكن ” روح” شخصا عاديا بل كانت تمثل بأسلوبها وجرأتها صورة المثقف الحر بكل مواصفاته .. فهي ترفض التطبيع ولا تقبل الآراء دون مناقشة أو دون أن تجادل المحاضر وتطرح عليه الأسئلة المحرجة سؤالا تلو سؤال … لقد كانت روح تمثل كيانا مزعجا ومربكا بالنسبة للضابط الذي يحقق معها ..فقد وضعته في حالة من الحيرة والتخبط حتى نهاية الرواية ، إنها رغم الألم والأسى عزيزة نفس متيقظة لكل ما يدور حولها ولكن شدة الضغط على أعصابها وإصرار الضابط على استجوابها وإلصاق التهم بها يجعلها تهرب إلى عالم الذكريات حيث السجن الداخلي وزر الدفاع الأول من ميكانزمات الدفاع النفسي الذي تقوم بتفعيله للهرب من حاضرها القاسي والمؤلم …
أول امرأة تلج إلى خارج مخيلة البطلة هي والدتها ..التي تمثل نمط المرأة الصابرة والشاكرة رغم المرض والتعب وضيق الحياة ، تلك المرأة التي تشقى لتسعد الآخرين متناسية آلامها الخاصة … فروح المحامية المتمردة ترفض أن تكون نسخة من والدتها …ولكن روح تعترف بأنها لن تستطيع التمرد على كل شيء في بيئتها ومحيطها المجتمعي ” سحقا ..هناك أشياء أعجز أن أتمرد عليها .. ضربات متلاحقة تؤذن بتراخٍ في عضلاتي ، أسرع لم يعد هناك وقت لمحاولة التمرد … أشعر بالرثاء على حالي … والنكهة كما هي ، دمع يترقرق في قلبي ثم يتبعه صمت ..”()
تصف لنا ” روح” منطقة الحضرة وبساطة أهلها وإقبالهم على الحياة رغم المشقة التي تعتري وجوههم ومعاناتهم في سبيل الحصول على لقمة العيش وهي صورة مقابلة لصورة ” الحجز” الغير آدمي والمعاملة المهينة لنزلاء الحجز والتعدي بالضرب عليهم في صورة يبرز فيها مدى إساءة استخدام السلطة ..
لا يمكن لروح أن تمارس طقوس حريتها ( كإنسان) إلا في مخيلتها كما ذكرنا آنفا ويمكننا أن نلاحظ أن هناك نمطين من الأحداث الأول واقعي في قسم الشرطة حيث غرفة الحجز والثاني خيالي حيث ميكانزمات الدفاع تحاول انتشال صاحبتها من خطر التعرض لانهيار عصبي فتأخذها إلى جزر الذاكرة التي لا يمكن لأحد أن يلج إليها دون رغبة سيدتها…
يخرج من ذاكرة ” روح” بالإضافة إلى أبيها رجل آخر ويلح سؤال يتفقده ” ترى أين هو الآن؟”()… لكن نزلاء الحجز لن يسمحوا لها باستكمال عملية الإبحار إلى جزر الذاكرة وتبدأ شخصية نسائية أخرى في الظهور تليها أخرى وأخرى وكل واحدة منهن فيما ألاحظ تمثل نمطا من الأنماط الأنثوية والبعيدة كل البعد عن جوهر المرأة المثالية…
سنلاحظ ونحن نتوغل في أعماق الرواية مع المؤلفة أنها تسعى للتأكيد على فكرة أن المرأة التي تعيش في هكذا مجتمع يعاني من خلل في الأفكار والمعتقدات ويقدس مبدأ العادات والتقاليد لن تكون سوية على المستوى النفسي وأنها ستقع فريسة الظروف التي تحيط بها وتفرض نفسها عليها حتى تصل إلى مرحلة من الهذيان والاستغراق في قصص الماضي ومخزونه داخلها …
روح اسم يحمل الكثير من المعاني والاسقاطات المتعمدة من الكاتبة ربما لتنبهنا إلى أن بطلة الرواية هنا هي روح بشرية قبل كل شيء … إنسان من لحم ودم لكنه مدرك تماما لكنهه فالروح حية ..على الأقل في داخل صاحبتها ذات الطبع المتمرد والفيلسوف في نفس الوقت “هذا التمرد سمة فيّ منذ طفولتي ..هكذا أخبرتني أمي ..”() ومع ذلك هي تعترف أيضا أن الروح قابلة لأن تشيخ قبل أن يهرم الجسد() .. إنها بمثابة قنطرة تجعلنا المؤلفة نعبر من خلالها إلى عالم النساء ونتفحصه وأشد خصوصياته ….
هذه الروح تأخذنا إلى رحلة في جدار ذاكرة الذات ولكنها رحلة شائكة ووعرة ” آه من تلك الذاكرة التي لا تكف عن الدوران وإخراج ما في جوفها..”()إنها تعاني لكن دون أن تستسلم ” كفاكِ تخاذلا”() تعرف قيمة الحياة فهي ليست تشاؤمية وإنما مواقف الحياة الصعبة تجعلها تبدو كذلك ” أعرف أن الطريق ليس ممهدا وليس باليسير ولكن الحياة تستحق المحاولة ..”()
تمثل مديرة الحضانة نجلاء نموذجا للمرأة المكبوتة والمقهورة والغير قادرة على إخبار أحد بمعاناتها حتى لا تبدو ضعيفة أمامه … تصفها روح بأنها كتلة شحم حادة الطباع وتجيد لغة الجسد .. لا يجرؤ أحد على الدخول في حوار معها فهي تعاني من الكبت ” الإنسان غريب .. قد يكون ضحية لظروف قاسية إلا أنه يهفو للبحث عن آخر يمارس عليه سلطة القهر ..”()
إنها حبيسة عالمين الأول يمثله العالم الخارجي في الحضانة والثاني يمثله عالمها الداخلي الخاص حيث الوحدة والشعور بالألم والقهر ومجابهة العديد من المواقف والأشياء المزعجة بالصمت … لا يشارك ” نجلاء ” عالمها من المخلوقات سوى قطة صغيرة بائسة مثلها أو هكذا وصفتها المؤلفة … لا شيء يمكنها أن تتذكره لتسعد بل هناك العديد من الذكريات المعززة للشعور بالقهر والحنق على الواقع ” الوحدة تخنقها رغم مرور سنوات على وفاة أمها “()
تعيش روح لحظات التقائها بالضابط والشويش بقلق كبير وسأم أكبر من الأسئلة المكررة والتهم الموجهة والإجابة لم تتغير كثيرا عدا الألفاظ التي قد تتغير ما بين رد ورد…لهذا تهرب إلى عالم الذكريات الخاص بها وتخرج هذه المرة صورة لامرأة بائسة ضحية مجتمع العادات والتقاليد هي الأخرى حيث السلطة الأبوية تقرر من يتزوج من ومتى وكيف!!!! ..
اسمها زهرة وقد انطفأت زهرة شبابها بمجرد الخنوع لزواج الأقارب الفاشل لتنجب بنيتها ” ندى ” المصابة بالتوحد دون علم أبويها أو انتباههم لذلك فاصبحت الأم بعد تنبهها تلوم نفسها وتجلد ذاتها ” تلوم نفسها وتعاتب عقلها الذي أغفل أن الطفل حين ينشذ عن مراحل النمو فلا بد من البحث عن السبب”() .. تعاني زهرة من الكبت الشديد الذي يجعلها لا تقوى على البوح لأحد ..فقط تكتفي بتفحص أفراد العائلة لتعرف إن كان مرض ابنتها وراثيا أم ماذا؟ وبمرور الوقت تحولت زهرة إلى شخص يخاف من كل شيء حتى انطفأت الأنثى بداخلها واحتفظت بدور الأم لترعى صغيرتها … لقد تحولت إلأى كيان مشوّه الطبيعة ولم تعد تكترث لمن حولها فهم أيضا مشوهون مثلها ولكن بطرق مختلفة ومستويات متباينة من التشوّه ورغم ذلك وجهوا لها الاتهامات … المرأة بداخلها تحولت إلى كتلة ( باردة ) المشاعر ومتبلدة الحس ماعدا حس المسئولية تجاه ابنتها وهي نموذج لفشل المجتمع الذكوري المحيط بها في فهم فسيولوجية المرأة واحتياجاتها كمخلوق ….
أما نحمدو زميلة الحجز فتمثل نموذج الأنثى الساذجة أو كما نقول في مجتمعاتنا ( على نياتها ) ، متصالحة جدا مع نفسها رغم دمامتها التي أشارت إليها روح في معرض حديثها عنها وسقوطها في فخ رجل خبيث السريرة مما عرّضها لتهمة حيازة المخدرات ولكنها ليست مستهترة كهيام التي تمثل نموذج المرأة الغانية والتي سقطت في براثن الرذيلة لتعبر عن أنوثتها بطرق لا أخلاقية فالشذوذ في تركيبة الكيان الأنثوي هنا يميل بشدة جهة اليسار لإشباع رغبتها في الوجود والظهوركأنثى وقد وصفتها روح بالسريالية وكأنها تريد الإشارة إلى عدم قدرتها على فهم تركيبة هيام التي ترقص مجانا وتضحك ثم تبكي حتى الإعياء ثم تستسلم للنوم …
أما حمدية فقد اتخذت طريقا مغايرا تماما لا شأن له بالأنوثة بل بالذكورة فهي تاجرة مخدرات تحتفظ دائما بشفرة حادة تحت لسانها لترعب أعداءها فهي ليست بحاجة لأحد ليدافع عنها إن تطلب الأمر وقد زاد شذوذها عن قاعدة الأنوثة التي وضعها فرويد ليصل بها الأمر إلى اغتصاب امرأة مثلها كهيام والاستقواء عليها وتهديدها بالموس…
وفي خضم هذا الزخم الأنثوي في الرواية يطل الضابط ” عصام ” ووالده في صورة تبرز برود عالم الرجلين ومعاناتهم الوحدة بعد وفاة والدة عصام لتشير الكاتبة إلى أهمية المرأة كفرد رئيس وفاعل في أي أسرة أو عائلة ..بل إن المرأة بإمكانها أن تكون نعمة كبيرة للرجل مثلما هي روح لشهاب بغض النظر عن طريقة التقائهما وما استباحاه لنفسيهما لكنه وجد فيها ما افتقده عند زوجته سميرة التي كان الحديث عنها يشي بكونها نقمة عليه لأنها لم تشعره بكماله المنشود كرجل كما فعلت روح معه رغم استئصالها لثديها …
تدور روح في دوامة لا تنتهي من الذكريات تتفقد بدايتها كفتاة صغيرة وتخبرنا عن والدها الذي يمثل نموذج الرجل البسيط الكادح والذي أتعبه العمل ومرض زوجته ثم تنتقل بنا إلى الحديث عن البقال كنموذج للرجل الذي لا ينطبق عليه ( سمعة ) مجتمع بعينه فقد كان صعيديا لكنه عديم الشرف… أما شهاب فقد كان جزيرتها التي تأوي إليها بحثا عن ملاذ للهروب من أسئلة الضابط التي لا تنتهي ..عبثا تحاول روح البحث عن ذاتها في أطلال الكريات ولا تجد نفسها حتى وهي تتذكر خصوصيات الأنثى وتحاول التملص من مطاردة الماضي والهروب من واقع مجتمع مريض ومشوه وعبثا يحاول معها الضابط فطوال الرواية وحتى لحظة استسلام روح للحبس الانفرادي لا نجدهما يجتمعان عند نقطة التقاء …وتثبت روح في وضعية رهين المحبسين ( النفس – الحبس الانفرادي ) مع كم رهيب من اللامبالاة والاستسلام اليائس…
لقد ألقت بي الرواية في بحر من التساؤلات ، إذ كيف تكون ” روح” بهذا القدر من الثقافة والتعليم والفلسفة ولا تجد لها مكانا جيدا تستحق العمل فيه ؟ كيف لهذا الكم من الأسى والعذاب أن لا يحرك المجتمع شديد الثبات في كل ما يتصل بالمرأة فهو ينظر لها بطريقة دونية تحت مظلة السلطة الأبوية …لقد تحول المجتمع إلى كيان شديد الشبه بمصاص الدماء ولكنه هنا يمتص الطاقة الإيجابية ويوزع عوضا عنها مشاعر سلبية تعمل على قهر المرأة والتقليل من شأنها بشتى الطرق وتحميلها كل أنواع الخطأ حتى في عملية الإنجاب !!!!
لقد اختارت المؤلفة تسليط الضوء على شريحة من النساء في هذا المجتمع جميعهن يعانين بطريقة أو أخرى من التشوه الأنثوي نتيجة القهر والكبت والخنوع لقرآن العادات والتقاليد وبالتالي فإن الطريق المباشر الذي إن سلكته الأنثى تحققت أنوثتها بعيد عن هذه الشريحة من النساء كل البعد والمجتمع هو المسئول الأول عن كل هذا…
التعليقات مغلقة.