” شتات الأمر “
محمود حمدون
====
سمعت عنه في الصغر , كان جبّارًا في الأرض , لا يهاب أحدًا , غليظ الطبع , قاسي القلب , لم يترك قائمًا إلاّ وسوّاه بأديم الأرض , مظالمه تفرّقت بين دماء خلق كثيرين , رأيناهم أبرياء وكان يُقسم هو بأن ذنوب ضحاياه تعلو قمم الجبال الشاهقات ارتفاعًا.
ومع ذلك كان ينام قرير العين حتى يرتفع شخيره عاليًا فترتج له نوافذ البيوت القديمة وتخمد الريح تحسّبًا لغضبته حال صحوه قبل أوانه, تمتد قيلولته ما بين الثانية والنصف عصر كل يوم حتى يرتفع آذان المغرب , عندها يسود الوئام فترة من الزمن … تلك كانت حالته وهذا كان وصفه بصدر شبابه وعنفوانه .
اليوم وهو يقترب من الثمانين وقد فقد بعض أسنانه , انحنى ظهره وتغضّن وجهه وفقد جميع قوته. رأيته يسير على ثلاثة و يلتقط أنفاسه بصعوبة , كان يسعل بشدة لعلّة توطنت بصدره , سُعاله أثار سُخط صبية يلعبون بنهر الطريق فوبّخه بعضهم بغلظة وأعقب ذلك تراشق لفظي يخرج عن حدود الأدب من جانبهم ,قابلهم هو بقلة حيلة أحاطت به أعجزته عن الرد .
كنت أتبعه كظله أرقب ردة فعله , أتوقع أن يهبُّ من رقدته . أن ترتد إليه عافيته فيطيح من جديد بالوجود والحياة , لكنه خذلني بعد ساعات طويلة قضيتها خلفه , فاقتربت منه وغضبي قد فاق كل حد , لمست كتفه بأصابعي مترددً ثم تجرّأت و عصرت بيدي كتفه الأيسر , سألته : مالك قد انعقد لسانك عن رد الإهانة ودفع الأذى عن طريقك .!!
أوشك أن يخر ساجدًا تحت قبضتي ثم ماج وجهه بألم لم تخطئه عيني ومن بين أضراسه خرجت بضعة كلمات متناثرة , لملمتُ أنا شتات أمرها فوجدته يقول : إنج من بلد لا يُحتَرم فيه ماضيك ..
التعليقات مغلقة.