شخصيات شكلت حروف الزمان
بقلم/إيمان أحيا
الحلقة الاولى :من هو العالم الجليل الذي حفظ حرفا فخلدته لغة الضاد؟
عثرت عليهم بين طيات الكتب والكثير منها يكاد يفتك به الهجران، فهالني أن يكون أناس بهذا القدر من العظمة التي خلدت اسمائهم من عظم دروب سلكوها وحياة انتهجوها ونحن غافلين عنها مُرالغفلة في هذه الهوة التي تكاد تودي بنا فلا يبقى لنا أثر حاضر ولا ذاكرة تحفظ إرث الماضي، فكان أن آثرت على نفسي أن أسلك خطوة إنعاش حيواتنا بنبض اولئك العظماء، ليتسنى لنا العيش بصحبة انفاسهم العبقة بحلاوة العلم في دنيا يرغب فيها الكثير ممن حولنا خنق انفاسنا وقتل الحياة في كل ما يدل على اثارنا في كتاب هذا الزمان .
ولتكن اولى حلقات هذه السلسلة بشخصية كان لها في درب العلم عظيم الاثر، وفي لغة الضاد ما رفع شأنها أجل رفعة..فمن هو الذي غير حرف من حروفها مجرى حياته ؟ وإن كان هذا شأن احد حروفها فما بالنا ببقية أبجديتها !..
إنه المازني ..صاحب القدرات الخلاقة في جميع الفنون والآداب ،ولد هذا العالم في “خراسان” ونشأ بها ولقب “بالمازني” ولما بلغ مرحلة الشباب طاف ببلاد العروبة والتقى ببعض التابعين، فأخذ عنهم الوانا من المعرفة وتأدب باخلاقهم وبرز في مختلف العلوم بروزا جعله علما من أعلام العرب .
قدم للمكتبة العربية مؤلفات جمة ومتشعبة شهدت له بالحصافة والكياسة و برسوخ قدمه في علوم الحديث واللغة والنحو والاجتماع والعروض واخبار العرب التي سجلها التاريخ ، ومن مؤلفاته كتاب ( الصفات ) الذي ذكر فيه خُلق الانسان، وصفات النساء ،والبيوت ،والجبال، والحيوان ،والطير، والكواكب، والليل، والنهار ،والألبان، والآبار ،والزروع ،والبساتين، والخمور، والرياح والامطار، ومنها ايضا كتاب (السلاح )،وكتاب (خُلق الفرس)، وكتاب (الأنواء ) ،وكتاب (المعاني) وكتاب (غريب الحديث ) ،وكتاب (المصادر)، وكتاب (المدخل إلى العين) لخليل ابن احمد ،وغيرها من المؤلفات التي تدل على الثراء العلمي وسبقه لزمانه في تلك العلوم التي لم تُعرف معرفة مستوفاة إلا في القرن العشرين حيث التخصصات في المعاهد والجامعات كما يقول أهل العلم .
ولكن وربما لا يكون سوء حظ بقدر ماهو تقدير الهي لخير اعظم ،حيث لم يكن لهذا العالم الجليل حظ من وفرة العيش ورفاهه بقدر ماكان له من وفرة في العلم ودروبه ، ما دفعه إلى التفكير في السعي والحركة بحثا عن اسباب الرزق ،فذهب إلى مدينة “مرو” حيث يقيم الخليفة المأمون وهو من هو من الخلفاء الذي تفرد بتشجيع مطلق للعلوم من فلسفة وطب ورياضيات وفلك ،إضافة إلى ماكان للغة العربية في عهده من مكانة مرموقة بفضل عمليات الترجمة التي رعاها هو وحاشيته وولاته بما جعلها لغة علم وفلسفة لاتقتصر فقط على الشعر والادب، وما إن وصل المازني إلى “مرو” ووقف على ساحة المأمون فوجد فوقها وحولها سيلا زاحفا من الشعراء والادباء والظرفاء، والجميع يطمعون في المثول بين يدي هذا الخليفة ،ومن غير طول تفكيروحيرة تردد، اقدم المازني على دخول هذه الساحة الكبرى واقتحام باب الخليفة رجاء للفوز بتقديره لعلمه وتحصيل ما يستحق مستمدا شجاعته من تذكر ملكاته ومآثره قائلا لنفسه : فإن ناظر المتناظرون بعلمهم وادبهم فأنت عالم واديب،
وإن فاخروا بأبائهم فأبوك شميل بن خرشة بن زهر الشاعر بن عروة بن حليمة بن خزاعى بن مازن بن تميم المازني، وإن فاخروا بقبائلهم فانت من قبيلة “تميم” ذات الحسب والنسب والعدد الجم الوفير.
وبالفعل استطاع المازني أن يدخل للمأمون لكنه دخل في ثياب مهلهلة ومرقعة ،فرحب به المأمون ثم قال له: يامازني ما هذا التقشف حتى تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان البالية ؟ ، قال المازني :أنا شيخ ضعيف وحر”مرو” شديد فأردت أن اتبرد بها ،فسكت المامون هنيهة ثم تكلم وذكر النساء قائلا : حدثنا هشيم عن خالد عن الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز” وذكر كلمة سداد مفتوحة السين ، فقال المازني:صدق عشيم يا امير المؤمنين ،ثم قال حدثنا عوف ابن ابي جميلة عن الحسن عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه قال..قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز ” وذكر كلمة سداد بكسر السين ، سمع المأمون ذلك الرد القارص فتنبه له وكان متكئا فاستوى جالسا وقال: يا مازني كيف تقول سداد بالكسر ؟ قال المازني :لأن سداد بالفتح لحن، قال المأمون :اتلحني؟،قال المازني :إنما لحن هشيم فتبع امير المؤمنين لفظه ،قال إذا ما الفرق بينهما؟ قال المازني: السداد بالفتح هو القصد في الدين والسبيل، والسداد بالكسريكون البلغة وكل ما سددت به شيئا فهو سداد بالكسر ،قال المأمون :اتعرف العرب ذلك؟ قال المازني: نعم وهذا العرجي في سجنه يقول:
اضاعوني وايَ فتًى اضاعوا ..ليوم كريهةٍ وسِدادِ ثغر
سمع المأمون هذا البيت فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال قبح الله من لا أدب له ،ثم قال : يامازني ماذا تملك في دنياك؟ قال أريضة اتمززها ، قال المأمون: أفلا نعطيك مالا معها ؟قال المازني: إني إلى ذلك لمحتاج جدا..،
سر المأمون لهذه الجلسة الطيبة مع المازني فأخذ يكتب كتابا ثم قال للمازني: كيف تقول اذا أمرت رجلا أن “يترب”؟ قال “أتربه” ، قال المأمون :واذا امرته من “الطين ” قال المازني “طنه”، فقال المأمون لغلامه: ياغلام طنه واتربه، وجاء وقت صلاة العشاء فصلاهما المأمون والمازني معا ، ثم خرج المازني فوجد الفضل بن الربيع عامل بيت المال يقرا كتابا جاءه من المأمون فقال: يامازني إن أمير المؤمنين أمر لك بخمسين الف درهم فما السبب؟ فذكر له ما جرى بينه وبين المأمون، فقال له الفضل : اتلحن امير المؤمنين؟ قال المازني: انما لحن هشيم فتبع امير المؤمنين لفظه ، فسر الفضل بهذا الرد كثيرا واعطاه من عنده ثلاثين الف درهم ،ليبلغ ما اخذه المازني من الخليفة وعامله ثمانين الف درهم نظير حرف واحد قام بتصحيحه لأمير المؤمنين .
سعد المازني بهذا المال الوفير فتفرغ للقراءة والكتابة اكثر فاكثر، واصبحت له مدرسة علمية قصدها الطلاب من كل فج ،وازدحمت بالرواد المخلصين وعظماء العلماء ، يقول تلاميذ المازني :كان استاذهم فصيح اللسان، قوي الحجة، ثبت المعلومة ،وقالوا :انه كان لايغفر لمحدثه الخطأ النحوي مهما كان ،وانه كان يسخر بشدة من الذين يلحنون في الكلام ،ويقرصهم بأقصى عبارات اللوم والتعنيف ،وذكر تلاميذه أنه “المازني” كان مريضا فدخل عليه قوم يعودونه فقال له رجل منهم يكنى “ابا صالح” :مسح الله مابك من علة، فقال المازني: لا تقل مسح بالسين ولكن قل مصح بالصاد أي اذهبه الله وفرقه ،اما سمعت قول الاعشى:
وإذا ما ما الخمر فيها ازبدت ..أفل الازباد فيها ومصخ
قال أبو صالح للمازني:إن السين قد تبدل من الصاد كما يقال الصراط والسراط، فأجابه المازني بقوله: اذا تكون انت “أبا سالح” بدلا من” أبي صالح” فضحك الحاضرون كثيرا من هذا الرد المفحم العجيب .
رحم الله هذا العالم الجليل الذي حفظ اللغة فحفظته …
التعليقات مغلقة.