شذرات من سيرة رجل لا يعرفكم…
بقلم: عبدالكريم جماعي
قصة قصيرة
بقلم: عبدالكريم جماعي/تونس.
- شذرات من سيرة رجل لا يعرفكم-
تصدير:
( لم تكن إمرأة بل كانت زلّة قلب)
“الشاعر رحيم جماعي”
(هل يستطيع الكائن البشري أن يعيش وحيدا؟ منطويا على نفسه مثل السلحفاة؟ حاملا همومه ومشاغله داخل قوقعته؟ راضيا بمصيره التعيس؟ مستغنيا عن علاقاته الاجتماعية؟ هاربا من مسؤوليته تجاه الآخرين؟
ليس بالخبز وحده يحيا الانسان..لكنّ بطلنا عاش به ولأجله..ربما واجهته أهوال في طريقه إلى الحياة السوية..فاكتفى منها بما يشد عوده فقط..عرفته في آخر سنواته..كان حينها قد أحيل على التقاعد من الوظيفة..بعد أعوام عديدة تنقل خلالها بين عدة جهات من الوطن..حتى استقر به الحال في مدينتنا..لم تكن له عائلة فهو لم يتزوج..مع تقدم العمر نسي الموضوع بتاتا..ليس لأنه غريب الاطوار..لكن بسبب علاقة حب قديمة لم تكتمل..جعلته يكره الجنس الآخر..عاش قصة حب رهيبة في بداية شبابه..علّق عليها كل آماله..بنى عليها في خياله حياة مغايرة فيها دفء وسكن..رأى فيها مستقبله باسما سعيدا.. ثم استيقظ على خبر اختفاء حبيبته فجأة..غادرته بلا رجعة..بحث عنها طويلا..دون جدوى..كأنها كانت محض خيال..هل من الممكن أن يختفي الانسان كالسراب؟
حاول استرجاع كل ما جرى بينهما..علّه يعرف سبب هجرها له..لكنه للأسف لم يجد ما يشفي غليله..لم يحقد عليها رغم الجرح الغائر الذي بقي ينزف في داخله..!!
سألته مرة: (هل مازلت ترغب في رؤيتها بعد كل هذه السنين؟)
فأجابني بعد آهة طويلة:( لم أعد أريد منها شيئا..فأنا نسيت جراحي القديمة..مع الوقت تعلمت أن أتجاوز..لقد سامحتها حقا ..إلا أنه بقي سؤال واحد يقضّ مضجعي أتمنى أن تجيبني هي عليه…فلقد عشت فقط لأسمعه…وهذا السؤال هو…لماذا؟؟)
ثم استرسل كأنّه يهذي: (لقد كانت أيقونتي وأميرتي..رأيت من خلالها جمال الدنيا..ذقت بقربها حلاوة الايام..بنينا معا قصورا من الألفة والسعادة..كنت أخاف عليها حتى من النسمة أن تجرح خدها..دللتها كثيرا.. أهملت عائلتي وأقاربي من أجلها..خططنا لزواجنا معا..وتعاهدنا على بناء العش بمودّة ورحمة..)
سكت برهة ثم أضاف( كرهت بعدها النساء..لم تعد لي ثقة في البشر..قلت في نفسي مرارا..كيف بمقدور كائنة رقيقة كالفراشة..أن تصير خائنة للعهد..كنت أظن نفسي قد خبرت المجتمع فقد تعاملت مع شتى اصنافه..لم أجد صعوبة في اختيار الأنقياء..لكن عندما التقيت محبوبتي أعطيتها الأمان بلا تفكير فأخذت قلبي وهربت..داست على أملي واختفت..سرقت مني سعادتي وتركتني للريح..!!
انعزلت عن الناس ألا بمقدار ما يتيح لي ضمان العيش..قضيت أعوامي وحيدا..لا أنيس لي ولا رفيق..جربت بعدها علاقات عابرة لا تتجاوز حاجتي البيولوجية..أشبع رغباتي سريعا ثم أواصل حياتي بلا شغف أو متعة..نسيت الزواج خاصة بعد تقدم العمر..تعودت على العزلة..حتى أصبحت جزءا مني..)
صمت فجأة..نظرت إليه.. كان مطرقا مهموما و يتنفس بصعوبة..كأنّ كلماته كانت تحبس مجرى الهواء..رفع عينيه فرأيته شاخصا في الفراغ.. محدقا في الفضاء بلا هدف..غادر مقعده بلا استئذان..كنا جالسين حينها في ركن داخلي من المقهى المعتاد.. خرج إلى الشارع..مشى ببطء حذر كأنه يتوقع حدوث شيء..كان فارع الطول مستقيم الظهر..دائم النظر الى الامام..مظهره يدل على شخص هادىء الطباع لكنه كان يغلي كالبركان..غاب في زحام الناس ولم يرجع إلا بعد ايام..!!
لم يكن من عاداته أن يخبر أحدا عن سر غيابه المفاجىء..يختفي متى شاء ويظهر متى أراد..لا يشارك الآخرين مشاغلهم اليومية..يعيش كناسك.. مترفع عن لغوهم الساذج..مكتفي بحياته البسيطة البائسة..!!
اغتنمت في إحدى المرات لحظات صفوه وسألته:( لم لا تعود الى ديارك وأهلك في العاصمة وترتاح من حياة الوحدة هذه؟)
فقال لي:( ليس لي أهل ألجأ إليهم..عشت يتيم الأب..شقيقي الأصغر هاجر منذ سنوات إلى أوروبا ولم يعد..أختي الوحيدة متزوجة ولها عائلة كبيرة.. وتعتني أيضا بوالدتي..)
بلع ريقه وحدّق في عينيّ مباشرة..رأيت دمعة في أحداقه تأبى الخروج.. مسكني من ساعدي وهمس لي:( اسمع..لقد ماتت أمي منذ أشهر ولم أجد القوة والشجاعة لحضور جنازتها..بكيت عليها لوحدي..ناجيت طيفها في خيالي..طلبت منها أن تغفر لي وتسامحني..على هجراني لها..!
الآن فقط أصبحت أشعر بأنني يتيم رغم وفاة أبي منذ سنين طويلة..)
التعليقات مغلقة.