شرود قصة قصيرة بقلم/ مريم الراشدي
بينما كانت الشاحنة تدفع دفعا مملا في عقبات الطريق بسبب تعب حالتها الميكانيكية، شردت صفية بفكرها، وهي الحامل في شهرها الثاني، في تلك الأشهر الستة اليتيمة التي قضتها بمقر عملها والتي لم تنعم خلالها بحضور زوجها إلا نصف المدة حيث كان يتنقل بين تلك المدينة ومقر عمله كأستاذ محاضر بمسقط رأسه.
..
كانت مع زوجها وسائق الشاحنة في المركبة الأمامية وكل أمتعتها وراءهم. كل قطعة تفننت في شرائها لتؤثث بها منزلهما الذي استأجراه مناصفة من راتبيهما، كل قطعة كانت على مثن تلك الشاحنة تشهد بمدى الأسى الذي أصاب صفية وهي تتهيأ لتعود أدراجها.. إلى نقطة البداية.. إلى ظروفها المرّة ببيت حماتها صعبة الطباع والتي قضت معها في نفس شقتها زهاء ثمانية عشر شهرا.
..
كانت تتوق إلى الاستقلال عنها وحين جاء الانعتاق.. وإن فرصة عمل في مدينة ثانية، تشبثت بها ولم تتركها إلا وزوجها يوافق إذ أن المنصب كان مترجمة في إحدى التمثيليات ببلادها.
..
كانت أجمل هدية من القدر تلك الفرصة.. ذهبية على الإطلاق.. وكانت أول دخول لها لعالم الاستخدام بكل ما به من سدرة حادة كادت تودي بها بالمرة..
..
عادت على مدى الطريق لذكرى اليوم الأول من اللقاء. استقبال مميز.. مستوى رفيع.. مدير وطاقم بكامل الأناقة.. مكتب فخم وروائح عطرة مع راتب لم تكن لتحلم به حتى.
..
كل ذلك كان في غمضة عين. وما أن استتب أمر استئجار البيت والعلم بمدة غياب زوجها الأسبوعية حتى بدأت مشاكسات المدير لها. ذات ذكية متقدة النباهة علاوة على جمالها.
..
سارت الأمور على غير ما ترغب صفية وما كان لها بالخاطر. انتبهت منذ الوهلة الأولى لمحاولاته غير المستساغة لكنها تجاهلت وأحبطت جميع محاولاته بتبنيها لسياسة “البليدة”، سبيلها للتخلص من براثن خبثه.
..
استشاطت غضبه وأصبح عدواني الطباع.. يأمرها بمهام غير التي اتفقا عليها وكانت بنودا على صفحات عقد العمل كما صار يطلب منها أن تبقى بمقر العمل إلى ساعات متأخرة وخاصة أيام غياب زوجها.
..
عاشت جحيما لا يطاق.. نوء زوجها وحاميها والصدر الحنون من جهة، ومن جهة أخرى هذا الوحش الكاسر الذي يزداد هيجانا يوما بعد يوم.
..
كلما توقفت تلك الشاحنة لعطل ما، تمنت لو لم تخرج عن دائرة مدينتها الصغيرة أول مرة. كانت تتوق للتحرر من ظروف زواجها فإذا بها تحاط بعالم شرس لم تكن تعلم به ولا بخباياه.. لم تخبَره آنفا. كل عالمها كان صديقاتها من المرحلة الثانوية والجامعية وأفراد عائلتها وحبيبها …
..
شرود في شريط ذكريات.. يجرها منهكة القوى حلمٌ بحريةٍ قرب من تحب..
..
مريم الراشدي
المملكة المغربية
التعليقات مغلقة.