صانعةُ المطر والشبّان الأربعة
بقلم ربيع دهام
” ماذا تراك تفعلين؟ “، سألوها وقهقهوا.
أكملت حفرها في التراب وأجابتهم :
” أصنع المطر”.
نظر الشبّان الأربعة في عيون بعضهم بتعجبٍ.
ملامح الإستهزاء تكسو سحناتهم.
قال لها الأشقر : ” لكن المطر ها هو في السماء. أنظري إلى هاتيك الغيوم. هي جالبة له. إنتظري هطول الشتاء بدل أن تكوني بهذا الغباء”.
سعيدٌ بكلامه الشاعري الموزون، غمز أصدقاءه وراح معهم يضحك بتنمّرٍ مشينٍ.
غير مبالية، أكملت هي حفرها في التراب.
حفرت لنصف ساعة. لساعة. لساعة ونصف.
الشبان الأربعة يجلسون في المقهى أمامها.
يحتسون قهوتهم بشفاههم ويرتشفونها هي بعيونهم.
جَلجَل الرعدُ وانشق من جوف السحب الداكنة جنود المطر.
وراح الجنود ينتشرون في كل مكان.
على أسطح البيوت. على الحدائق. فوق الكروم. على الشجر.
على التراب. وعلى رأس الصبية.
زهزق الشبان ساخطين ساخرين.
وصرخ الأسمرُ :
” أيتها البلهاء. أيتها الرعناء. أيتها الشمطاء. أيتها الصغيرة الغبية. ها هو المطر فوق شعركِ. فلماذا تستمرين بالحفر في ذاك التراب اللعين”.
من دون أن تنظر إليهم، استلت من خلفها وعاءً بلاستيكيا صغيراً وركنته في الحفرة.
ثم ابتسمت حين حاولت زحزحته من مكانه ولم يهتز.
نفضت يديها من الوحل، وعادت راكضةً إلى البيت.
الشبان الأربعة ما زالوا متسكعين في المقهى. يتكلمون عنها
بازدراء.
ازدادت شماتتهم بالصبية حين شاهدوا الوعاء.
فصاح الأشقر : ” أهي بحاجة لكل هذا الحفر لوضع الوعاء
تحت المطر؟ “.
أجابه ذو الوجه المستطيل : ” أمتأكد أنه فقط وعاء؟ ربما وضعت تلك المجنونة دميتها الميتة فيه. ربما جعلت من الوعاء كفن. ثم وضعت الكفن في التراب على مبدأ إكرام الميت دفنه”.
أضحكتهم كلمات صديقهم جداً وقهقهوا بأعلى ما في حناجرهم من صوت. ثم أكملوا احتساءهم للقهوة. وبعد القهوة للشاي. وبعد الشاي للنرجيلة.
ومضت خمسة ساعات وهم على هذه الحال.
امتلأ الوعاء وتوقف المطر. فتحت الشمس شبابيكها وأطلت من خلف الغيوم.
في تلك الأثناء كانت الصبية تفتح كتابها المدرسي على درس في العلوم إسمه : ” دورة الماء”.
وأخذت تقرأ : ” حرارة الشمس تبخِّر مياه البحار والينابع. البخار يتصاعد إلى السماء. تبرد حرارته ويصبح غيوماً. الغيوم تتساقط مطراً”.
أغلقت الكتاب فرحةً. ها هي اليوم تصنع مطرها.
انسلت إلى سريرها.
سمعت أصوات الشبان وهم يضحكون.
ومن دون أن تدرك على ماذا يضحكون، ضحكت لضحكاتهم.
ركنت رأسها الصغير على وسادة أحلامها.
لا تريد أن تغفو.
سعيدةٌ تنتظر عودة أبيها من عمله لتخبره عن إنجازها العظيم.
بالطبع لم تصنع الصبية في ذلك النهار المطر.
فالوعاء صغير جداً ولا يتسع لغيمة.
ربما كان الشبان المستزئين التنابل على حق.
لكن في ذاك النهار حدّد كل من الفريقين، الشبان والصبية، قدره.
هم العاطلون عن العمل والتفكير ينتظرون الحياة متسكعين في باحة الوصول،
وهي، الحالمة المكافحة ، تصنع الحياة بعرق جبينها ويديها.
بقلم ربيع دهام
التعليقات مغلقة.