” صحْوة ” قصة قصيرة بقلم/ مجدي شعيشع
عطرُها وحده كان كفيلًا بهزيمتي، كلّ ما أجرته على هيئتها كان مدهشاً، كيف لفتاةٍ بسيطةٍ بثيابها المحتشمة أن تنقلبَ إلى سيّدة تضجُّ بالأنوثة والحياة والشباب
في مدّة دقائقَ وجيزةٍ قضتها في الحمام؟
تبادر إلى ذهني سؤالٌ مُلِحٌ: أين كانت تُخبّئ هذا الجمال؟ وهذه الثياب المثيرة التي لم تحرِّك في مشاعري سوى الدهشة والغيْرة الدفينة.. حذاؤها العالي، شعرها الذهبيّ، فستانها الورديّ، خطواتها الواثقة.
كلُّ العيون المعلّقة عليها، تؤكّد أنها الأنسب للوظيفة الُمعلن عنها في فندق كتاركت، الفندق الذي لم أدخل مثله في حياتي من قبل، ولا حلمت يوماً أن أكون من رُوّاده، كُلُهُم أقرُّوا لها ضمنيًّا بأنّ الفرصة الوحيدة للوظيفة الشاغرة هي لها، فالوظيفة واحدة، وتنتظر أحدَنا.
تمنّيتُ أن يكون دورها أوّلاً، كي يسقطَ حِمل القلق عن كتفي، بينما حِقدي عليها يتنامَى ويتعاظم، سقط الملفُّ من يدي المرتجفة، وأنا أقلّبُ صفحاته للمرّة العاشرة، وما إن لملمت أوراقي حتى عذرتها.
قلتُ لنفسي: وأنت أيضاً تكذب مثلها، و تتجمّل دون أن يدرى أحد، إلا أنها تتجمل بفجاجة(1) صارخة، أمَا تزوَّدت بشهادة خبرةٍ مزوّرةٍ؟ هل فكّرت إذا ما اكتشف السيّد (إبراهيم مرسي) أمرها؟
عقدتُ النيَّةُ أن أتخلَّصَ منَ الشهادة بعد أداء دورها، فالوظيفة كبيرة وأوراقي بدونها لا تُؤهِّلني لها، وأشعر بأنّي الأحقُّ بها، ولا ذنبَ لي أنّ الفنادق المتوسّطة التي عملت فيها رفضت منحي شهادة خِبرة.
ما ذنبُ تلك الفتاة، حتى تمسَّها أضغاني؟
أراها جاءت لتلتهمَ فرصتي الوحيدة، وتُجْهِزَ على آمالي المعقودة عليها، الوظيفة التي تنتظرها عائلةٌ كاملةٌ من ورائي وحاجتها للحياة الكريمة،
أزيحُ نظري جانباً، اصطدمت عيوني بزجاجٍ نظيفٍ، عَكَسَ وجهَ أمّي الرّحمانيّ كالبدر، وصدى صوتِها يتردّد، يا ابني لا تنسى فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ، ولا حتى “رضّاي عنك”…
آهٍ لو كنت هنا يا أمّي؛ كي ترَي وجه الفتاة الذي غطّته مساحيقُ التجميل وفنون الإثارة، لأدركتِ بُطلان حكمتك.
اتّكلْ على الله يا ولدي، وفّقك الله، كلّ أوراقك مضبوطة.
أوراقي؟ يالأوراقي الهشّة!
جاء دوري للدخول، عاد الأمل من جديد، أأدخلُ متسلِّحاً بدعاء أمّي الذي لحقني حتى باب بيتنا مودِّعاً، أم بشهادةٍ لا تُسْمِنُ ولا تغني؟
مكتبه الباذخُ المُرتّب جعلني أنتبه لحذائي، ألوم نفسي، كان عليَّ إعادة تلميعه قبل الدخول، أمّا السيد “إبراهيم مرسي” بهيئته الوقور التي تمنح الزّائر الطمأنينة، صمته، وقاره، وملامحه الحياديّة، وهو يتفحّصني بهدوء، وابتسامة الكرم تسبق كلماته، سلّمته الملفّ بيدٍ مرتجفةٍ، فأنا خاسرٌ لا محال، قبل دخولي تمنّيت الوظيفة، والآن أتمنّى الحياة في إدارة إبراهيم مرسي.
فتح الملفّ، وقعت بين يديه الورقة التي أخشى ظهورها، حدّقَ فيها، طاف بنواصيها، أخرجها وحدها من الملفّ، وتفحّصها بدقّةٍ كمن يتفحَّص عُمْلَةً ورقيّةً نادرةً، وقعتُ في دوّامة الشكّ، في ثوانٍ مرّت عليَّ كالدهر، دقّات قلبي لا تهدأ، ورأسي غيمةٌ تمطر عرقاً كاد يغرقني، كلّما جفّفته عاد من جديد.
ابتسامة ملائكيّة غمرت تفاصيل وجهه الطيّب، أتذكّر كلمات أبي رحمه الله، وهو يوصيني أن لا أغضب الطيّبين، يلومني عقلي المهزوم، ليته ينطق بالحكم ويخلّصني من هذا الصراع.. ليتني ما جئت هنا.
رفع نظره إليَّ، قال بهدوء:
” تقول هذه الورقة إنك عملت بوظيفةٍ مشابهةٍ لمدّة أربع سنوات في فندق جراند سكاي، هل هذا صحيح؟”.
أجبته بسرعة، وبلا تردّد: “لا” كمتّهمٍ ينفي التهمة عن نفسه، قالها صوتي المبحوح القادم من بئرٍ عميقٍ.
سقطت عيناي فى الأرض أنتظر العقاب، وأنتظر وقع كلمة(لا) التي أفلتت مني، وتهيّأتُ للرّحيل، أزاح نظره، المسلّط كأضواءٍ كاشفةٍ عن وجهي، شعرتُ باقتراب الفِكاكِ منه.
عادت إلى ذهني تلك الفتاة المنتظرة خارجاً، وكيف ستحصل هي على الوظيفة وتطير منَ الفرحة كالفراشة!
نقر بأصابعه على المكتب:
“ها . . . . . أين شردت؟
ألا تسمعني؟”
نعم.. نعم أسمعك، يا مستر إبراهيم.
مدَّ لي الملفَّ، تناولته بيدٍ مرتجفةٍ، وبانكسارٍ عجيبٍ، وقلبٍ واجفٍ، لم أصدِّق ماقاله:
” معذرة يا مستر، هل تعيد لي ما قلته؟”
بابتسامةٍ أبويّةٍ دافئةٍ قال:
” أقول: ألف مبروك، تمّ قبولك بوظيفة محاسب مكاتب أماميّة، في فندق كتاركت الغردقة الباشا ريزورت”.
1- فجاجة: فَجَاجَة كلِّ شيء: قلة نُضْجِه·
التعليقات مغلقة.