صورة من ألبوم كورونا بقلم ابراهيم مصري النهر
ذوو المرضى خارج أسوار المستشفى يفترشون الرصيف ويلتحفون سماء شهر ديسمبر الباردة، يجلسون القرفصاء مسندين ظهورهم إلى السور، ومحتمين بأشجار الفيكس من طلّ أخر الليل.
خرجت من المستشفى لشراء بعض الطعام والشراب، مرتديا بدلة العمليات ذات اللون الكحلي -اعتدنا لبسها والكمامة منذ انتشار وباء كورونا- فإذ بصوت آتٍ من الخلف:
-دكتور، دكتور …
يعلو في كل مرة عن المرة التي قبلها.
التفت، لأجد رجلا في الأربعينات من عمره، قد خالط الشيب لحيته التي أُهمِلت على طريقة المساجين، أشعث الشعر، رث الثياب برغم فخامة خامته، تعلو عينيه غمامة حزن، وتبدو على وجهه ملامح القلق والخوف.
اقترب أكثر، تبادلنا التحية، تحية غرباء باهتة، ثم أردف قائلا:
-ألم تعرفني؟
-حققت ومققت فيه وأطلت النظر لأتعرف عليه، ورحت أستجدي الذاكرة استرجاعا للوجوه التي عبرتها ولكن دون جدوى.
عندما أدرك ذلك عقَّب قائلا:
- أنا المهندس فلان زميل الثانوية.
- رحَّبت به ترحيبا أكثر حرارة من الترحيب ذي قبل، وتأسفت له على ضعف ذاكرتي متعللا بالتغيير الكبير الذي اعتراه وطول المدة التي لم أره فيها.
اصطحبني في الذهاب إلى محل البقالة، في الطريق اغرورقت عيناه وانفرط عقد دموعه، وهو يخبرني بأن زوجته محجوزة بوحدة العناية المركزة بعد إصابتها بڤيروس كورونا، ويود أن يعرف أخر تطورات حالتها.
حاولت مواساته ببعض الآيات والأحاديث التي تحض على الصبر، ووعدته بالمرور عليها في التو وموافاته بأخر المستجدات.
ذهبت مسرعا لوحدة العناية، طلبت من الممرضة إحضار ملفها، اطلعت عليه بسرعة، وذهبت إلى غرفتها؛ وجدتها في حالة حرجة، موضوعة على جهاز تنفس صناعي والموت يحوم حولها، ساءني جدا حالها.
ماذا أقول لزوجها الذي ينتظر على أحر من الجمر ردا يحمل ولو بصيصا ضعيفا من أمل؟
ترددت .. أخبره أم لا؟
بعد حيرة حسمت أمري، وجدت أن إخباره بحقيقة الأمر أفضل.
في طريقي إليه، أراه يرمقني من بعيد من بين أسياخ بوابة المستشفى الحديد، عندما اقتربت منه رأني بوجه غير الوجه الذي ذهبت به، وفّر عليّ معاناة البوح برسالة حزينة ومؤلمة، استطاع أن يقرأ حروفها من ملامحي.
وبلسان متهدج، قال:- أعرف أن الحالة حرجة، وبسؤال ينتظر من إجابته إجابة عن سؤال آخر في ذهنه أردف: لكن، هل يمكنني المبيت الليلة في بيتي الذي لم أدخله منذ خمسة عشر يوما لأغير ملابسي، وأحضر في الصباح الباكر؟
-حركت رأسي في أسف أن لا.
جثا على ركبتيه وهو ينهنه كالطفل ويردد:
-وصلت الرسالة، وصلت الرسالة….
وأمسك صدره بيده وسقط مغشيا عليه.
د. إبراهيم مصري النهر
التعليقات مغلقة.