طست وكفن قصة قصيرةً بقلم كريم علي الشريف
كان وجه الدنيا خريفيًا من ذاك النوع الذي تضيق به الأنفاس.
اشترت أمي إوزة شَمورت بكارة، تلك المرة الأولى التي يدخل فيها جوفنا إوز، لطالما احتلت الهياكل والأجنحة وأرجل الدجاج مائدةَ المناسبات.
أمعنت أمي في تجهيزها، والبسمة تدغدغ قسماتها.. دخل أبي مع لملمة الشمس لأذرعها.
شارع طويل وكئيب.. إذا ما حَلَّ المساء فالبيوت خفيضة والجدران تقاوم السقوط.
ووجهانا الذابلان أنا وأخي.. ونعيق غرابٍ يأتي من بعيد.
نرتدي حُللاً ليست بحُلل.. تتقافز رأسانا لنرى القادم من بعيد، ورائحة الإوزة تملأُ جوفينا.. كان أبي.. لكن ما الذي أناخ هامته هكذا!؟
اقتربَ أكثر فلاحت إجابات كثيرة.. إنه يَلُّف عمامته التي كان يسبلها، كما بدت موشّاة ببقعات شتى، إنها حمراء.. إنه دم.. دم على عِمامة أبي.. وجهه.. أبي لم يكن وجهه ممتلئًا لتلك الدرجة، دنا مِنا، فإذا بشفتيه متورمتين!
عاركَ أبي، عانى أبي.. شَعر بالكسرة أبي.. أطرق رأسه لمّا قابلته أمي في حَنَك المطبخ الذي تؤنسه شمعة هزيلة.
بيدها خِرقة كانت لِباسًا لأبي، قدّم على معاش مبكر وعمل “شِفت كَرير”، وراح يخدم في المطبخ.
دخل حجرته وجلس يجهش بالبكاء، وعينا أمي تحاصرانه بالأسئلة، وقلبانا قد التصقا بباب الغرفة يخفقان الكسرة مع دقات القلب.
أبونا أقوى رجل، وأشجع رجل، أبي نصف إله، صرخت عيناي تردّان على ما تقوله مُقلتا أخي الصغير.
تَبدّل أبي مِن وقتها، لم يعد يضحك، لم يعد يطاردنا وضحكاته تسبقه إلينا.
لم يجلس بعدها ليشرب الشاي مع جدتي كل جمعة.
لم يعد بعدها مِن حيث أتى، ظل هناك، وجاء شبيهه بحواجبَ تتكئ على جفنيه، وجفناه قد ارتخيا، ومحجران يغوران بعينيه.
واحدودب يومًا بعد يوم، وكسرة تلو كسرة، للحد الذي يستحيل معه الرقاد، ولا يستخدم جانبيه.
ذَبُل أبي، ونصح الشيخُ “أبو غراب” أمي أن تذبح له إوزة شَمورت بيضاء، وتهرق دمَها على وجهه وخصره!
وأن تطهوها في طست كبير، وتحمّمه بالمَرَق.
فعلت أمي.. استغلت أبي الغاطّ ونحرت الإوزة حيث أشار “أبو غراب”.
نعق غراب بينما الوقت كُحل؛ حيث تلملم الشمس أحبالها.
طهت أمي الإوزة في طشت الغسيل، أكثرت من المرق، وأهدرت خمسة حِزم بصل وكيلو من الملح استلفته مِن جارتنا، احتضنت رائحة المرق ذرات الهواء، وامتلأ جوفي وأخي برائحتها.
دخلت أمي لتوقظ أبي.. صرخت.. شقت ثوبها.. لطمت الخدين، وغبرت وجهها. قابلت عينَي أخي وأنا أقول أبونا أقوى رجل، وأشجع رجل، أبي نصف إله لا يموت!
خذلني أبي… وكُفّن بالطست، إذ أبَى أن يستلقي على ظهره… وغنمت القطط الإوزة.
التعليقات مغلقة.