عالَــمٌ في صمتِ غرفةْ بقلم ربيع دهام
صفعتُ البابَ بشدّةٍ حتى كاد الجدار يصرخ : ” تباً لك أيها الباب”.
اعتذرتُ من الجدار هامساً : ” الذنب ذنبي لا ذنب الباب”.
تفهّمني، ثم اعتذرَ من الباب متأسُّفاً.
شكرته على تفهّمه.
نعم. هو ذنبي أنا لأنني كنتُ قد عدتُ من الخارج غاضباً.
وهو ذنبي أنا لأنني خرجتُ بالأصل إلى الخارج حالماً.
وهو ذنبي أنا لأنني اخترتُ أن أترك قضبان عزلتي كي أرى الناس بعد طول جدران.
وهو ذنبي أنا لأنني اعتقدتُ أن أحداً ما في هذه الدنيا سيكون مشتاقاً لرؤيتي.
ما إن أطلّ الشارع عليّ حتى رأيتهم هناك، كالنيازك يصولون ويجولون.
هياكل عظمية ولحمية مركونة على قدمين. اقتربتُ من دنياهم.
أومأتُ لأول هيكلٍ مرّ أمامي. لم يرني.
همستُ له : ” صباح الخير”. لم يسمعني.
صحتُ بآخرٍ : ” أنا هنا. أنا عدتُ”.
اصطدم صوتي بجمجمته وعاد وارتطم بي.
من هول الصدمة انطرحتْ آمالي أرضاً.
لململتُها وذهبتُ لأول متجرٍ صادفته.
رجلٌ خلف المنضدة يعتمر الموت.
” مرحبا”، قالت شفتاي المتورّدتَينِ بالحياة.
عادت الـ “مرحبا” خائبةً. لم ترحّب بها إلا أذني اليمنى.
شتمتْ حياتها الكئيبة. أدخلتْ حروفها في أذني واختفتْ.
أما أذني اليسرى، فكانت منشغلة بصوت ارتطام سيارة ما بعامود الكهرباء.
صوت زمور سيارة إسعاف يعلو.
تقف السيارة. يخرج منها السرير المتحرك.
يحمل السريرُ السيارةَ فوق بطنه.
يعرج بها إلى داخل سيارة الإسعاف. يشغّل زمور الطوارىء، وينصرف.
سائق السيارة منطرح أرضاً. الدماء الزرقاء تنزف من عروقه.
جرذٌ كبيرٌ يركضُ نحو الجثة. يصرخ بأصدقائه الجرذان:
” هلموا! ما زال في قلبه بعضٌ من نبض. ساعدوني لإنقاذه”.
يتراكض الجرذان نحو الجثة.
تنفُّس إصطناعي. لم يستفيق.
صعقة كهربائية. آه. لا يوجد كهرباء.
تصيح قطةٌ من إحدى الزوايا : ” إتصلوا بالطوارىء”.
الهياكل البشرية ما زالت تصول وتجول.
هيكلٌ يقتربُ من الجثة.
يتنفّس الجرذان الصعداء. ” ها رجل جاء لإنقاذه”، تقول.
يركل الهيكلُ الجثةَ محاولاً إبعادها عن طريقه.
الجثة هامدةٌ لم تتحرك.
استلّ فوطةً بيضاءَ من جيبه.
الجرذان تراقب بفرحٍ ودهشةٍ : ” يا لذكاء البشر. لا بدّ أن له
طريقة عجيبة في إنقاذه”.
تدنو الفوطة نحو الجثة. الجرذان تراقب.
تقتربُ الفوطة من جمجمة السائق. الجرذان تراقب.
ثم تكمل الفوظة طريقها نحو حذاء الهيكل البشري، القريب من الجمجمة.
ويهم بتنظيف الحذاء من دم الجثة.
الجرذان تنتحب.
ينتصب الهيكل مجدداً. ثم يقفز فوق الجثة ويكمل طريقه وكأن شيئاً لم يحصل.
تخيب آمال الجرذان.
يطالب كبيرهم باجتماع فوري وعاجل وضروري.
“ها قد حان وقت الخطة “ب””.
تُنفَّذ الخطة.
تنتشل الجرذان هاتف خلوي من أحد الهياكل البشرية وتتصل بالطوارىء.
يجيبهم الصوت على المقلب الثاني : ” الحمدلله أنكم اتصلتم بي. ألديكم سيارة إسعاف؟ هناك امرأة منطرحة أرضاً ونريد إنقاذها حالاً”.
” من أنت وأين؟ وما إسمك أيها البشري؟”، تصيح الجرذان.
يجيبهم الصوت على المقلب الثاني من الموت :
” أنا جرذٌ مثلكم”.
( بقلم ربيع دهام)
التعليقات مغلقة.