“عبد الله بن عمر ” وقفه تأمل فى حياته رضي الله عنه
بقلم محمــــد الدكـــــرورى
عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب القرشي ، وهو ابن الصحابي والخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وأمه وأم شقيقته حفصة هي زينب بنت مظعون الجمحيه أخت الصحابي عثمان بن مظعون ، وأسلم عبد الله بن عمر بمكة مع أبيه، ولم يكن قد بلغ الحلم يومئذ، ثم هاجر مع أبيه ، وما أن هاجر إلى المدينة المنورة حتى انخرط في عقد المسلمين، وصحب النبي محمداً صلى الله عليه وسلم ، والتف حوله مع غيره من صحابته.
ولما أمر النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج إلى غزوة بدر، تطوع يومها عبد الله للقتال، فردّه النبي محمد لصغر سنه، وهو ما تكرر عندما حاول التطوع للقتال في غزوة أحد ، ولم يُجزه النبي محمد للقتال إلا في غزوة الخندق وكان عمره يومها خمسة عشر سنة، وقد روى مولاه نافع تلك الأحداث على لسان ابن عمر نفسه، فقال: عرضت على النبي يوم بدر، وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فلم يقبلني، وعرضت عليه يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يقبل وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة، فقبل.
ومن يومئذ، شهد ابن عمر ما بعد غزوة الخندق من المشاهد مع النبي محمد، فشهد بيعة الشجرة، وفتح مكة، وغزوة مؤتة ، وكان رضي الله عنه يتبع آثار النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ويقتدي به في جميع أموره؛ لدرجة أنه كان يتحرى أن يصلي في كل مكان صلى فيه النبي ، ويسير في كل طريق سار فيه النبى ، رجاء أن توافق صلاته أو مشيته مكانًا صلى فيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أو سار فيه، وعلم أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم نزل تحت شجرة يستظل بها، فكان عبدالله ينزل عندها، ويتعهدها بالسقي فيصب في جذرها حتى لا تيبس.
ويقول عبد الله: كان الرجل في حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي ، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي ، وكنت غلامًا شابًا، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي ، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، فلقينا ملك آخر، فقال لي: لم ترع ، أى لا تخف، فقصصتها على حفصة أخته ، وزوج النبي ، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال:
” نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل ” فقيل كان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً وكان إذا فاتته العشاء في جماعة، أحيي بقية ليلته ، وكان لعبد الله مهراس (حجر مجوف) يوضع فيه الماء للوضوء فيصلي ما قدر له، ثم يصير إلى الفراش فيغض إغفاء الطائر (ينام نومًا قصيرًا)، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي، يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمسًا.
وكان عبد الله من أهل التقوى والورع والعلم، وكان مع علمه الشديد يتحرى في فتواه، ويخاف أن يفتي بدون علم، وقد جاءه يومًا رجل يستفتيه في شيء، فأجابه معتذرًا: لا علم لي بما تسأل عنه، ثم فرح وقال: سئل ابن عمر عما لا يعلم فقال: لا أعلم ، وقال عنه ميمون بن مهران: ما رأيت أتقى من ابن عمر ، وكان كارهًا لمناصب الدنيا، خائفًا من تحمل أعبائها، وقد أرسل إليه عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وعرض عليه منصب القضاء فرفض ابن عمر .
وكان عبد الله يحب الحق ويكره النفاق، وقد جاء إليه عروة بن الزبير بن العوام وقال له: يا أبا عبد الرحمن، إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون بالكلام، ونحن نعلم أن الحق غيره فنصدقهم، ويقضون بالجور (أي يحكمون بين الناس بغير الحق) فنقويهم ونحسنه لهم، فكيف ترى في ذلك؟! فقال ابن عمر لعروة: يابن أخي، كنا مع رسول الله ( نعدَّ هذا النفاق، فلا أدرى كيف هو عندكم؟!
وذات يوم رأى رجلاً يمدح رجلاً آخر، فأخذ ابن عمر ترابًا ورمى به في وجهه وقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إذا رأيتم المدَّاحين فاحثوا (ألقوا) في وجوههم التراب” رواه مسلم ، وكان رقيق القلب، حسن الطباع، لا يسمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بكى، وما كان يمر بمسجده وقبره ، إلا بكى حبًّا وشوقًا إليه.
وكان حسن الخلق لم يلعن خادمه قط، ولم يسَبَّ أحدًا طوال حياته، وقد ارتكب خادمه خطأ ذات مرة فهمَّ أن يشتمه، فلم يطاوعه لسانه، وندم على ما همَّ به فأعتقه لوجه الله تعالى، وكان قارئًا للقرآن، خاشعًا لله، وكلما قرأ أو سمع آية فيها ذكر القيامة بكى حتى تبتل لحيته من كثرة الدموع، فعن نافع قال: كان ابن عمر إذا قرأ: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) بكى حتى يغلبه البكاء.
وكان يعظم صحابة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، ويعرف قدرهم، وكان يخرج إلى السوق من أجل السلام على المسلمين فقط، وكان كثير التصدق وجوادًا كريمًا يكثر الإنفاق في سبيل الله، وكان إذا أحب شيئًا أو أعجب به أنفقه في سبيل الله، وكان من أشد الناس زهدًا في نعيم الدنيا، ومن أحسن الناس حبا لفعل الخير، فيحكى أنه كان مريضًا فقال لأهله: أني أشتهي أن آكل سمكًا فأخذ الناس يبحثون له عن سمك .
فلم يجدوا إلا سمكة واحدة بعد تعب شديد، فأخذتها زوجته صفية بنت أبي عبيدة فأعدتها، ثم وضعتها أمامه فإذا بمسكين يطرق الباب، فقال له ابن عمر: خذ هذه السمكة، فقال أهله: سبحان الله! قد أتْعَبتنا حتى حصلنا عليها، وتريد أن تعطيها للمسكين؟! كلْ أنت السمكة وسنعطي له درهما فهو أنفع له يشتري به ما يريد ، فقال ابن عمر: لا أريد أن أحقق رغبتي وأقضي شهوتي، إنني أحببت هذه السمكة فأنا أعطيها المسكين إنفاقًا لِمَا أُحِبُّ في سبيل الله .
والصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، وما منحه الله من العلم والفقه في الدين
ولقد فقه شرف الأمانة التي حملها على عاتقه ، لذا ما أثر عنه أنه سكت على باطل ، أو داهن أهل الضلال، بل كانت لا تأخذه في الله لومه لائم، ولا تمنعه هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه ، فذات يوم وقف الحجاج خطيبا، وقال: (إن ابن الزبير حرف كتاب الله) فصاح ابن عمر في وجهه: (كذبت كذبت كذبت)، وسقط في يد الحجاج، وصعقته المفاجأة، وهو الذي يرهبه كل شيء، فمضى يتوعد ابن عمر بشر جزاء، فلوح ابن عمر بذراعيه في وجه الحجاج .
وأجابه والناس منبهرون وقالوا ، إن تفعل ما تتوعد به فلا عجب ، فإنك سفيه مسلط ، وكتب إليه الحجاج: بلغني أنك طلبت الخلافة، وإن الخلافة لا تصلح لعي ولا بخيل ولا غيور ، فكتب إليه ابن عمر: أما ما ذكرت من أمر الخلافة أنى طلبتها فما طلبتها، وما هي من بالى، وأما ما ذكرت من العي والبخل والغيرة، فإن من جمع كتاب الله عز وجل فليس بعي، ومن أدى زكاة ماله فليس ببخيل، وأما ما ذكرت فيه من الغيرة فإن أحق ما غرت فيه ولدي أن يشركني فيه غيري.
وهو عبد الله بن عمر رضي الله عنه العالم المجاهد الصابر، يحمل سيفه على عاتقه، ويمضى في سبيل الله يفتح به البلاد ويفتح معها قلوب العباد إلى عقيدة التوحيد، فشهد اليرموك والقادسية وجلولاء، وما بينهما من وقائع الفرس، وشهد فتح مصر واختط بها دارا، وقدم البصرة وشهد غزو فارس، وورد المدائن مرارا، فضلا عن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهكذا ما ترك عبد الله بن عمر بابا من أبواب الخير إلا طرقه، فزان علمه بعمله، وفي ذلك يقول سعيد بن المسيب: مات ابن عمر يوم مات، وما من الدنيا أحد أحب أن ألقى الله بمثل عمله منه ، وقد عُرضت الخلافة على ابن عمر عدة مرات فلم يقبلها، فها هو الحسن يقول: “لما قُتِل عثمان بن عفان، قالوا لعبد الله بن عمر : إنك سيِّد الناس وابن سيد الناس، فاخرج نبايع لك الناس” قال:
“إني والله لئن استطعت، لا يُهرَاق بسببي مِحْجَمَة من دم”. قالوا: “لَتَخْرُجَنَّ أو لنقتُلك على فراشك”. فأعاد عليهم قوله الأول، فأطمعوه وخوفوه، فما استقبلوا منه شيئًا” واستقر الأمر لمعاوية ومن بعده لابنه يزيد، ثم ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلافة زاهدًا فيها بعد أيام من توليه، وكان عبد الله بن عمر شيخًا مسنًّا كبيرًا، فذهب إليه مروان وقال له: “هَلُمَّ يدك نبايع لك ، فإنك سيد العرب وابن سيدها”. قال له ابن عمر : “كيف نصنع بأهل المشرق؟”
قال مروان: “نضربهم حتى يبايعوا”. قال ابن عمر : “والله ما أحب أنها تكون لي سبعين عامًا، ويقتل بسببي رجل واحد”. فانصرف عنه مروان.
وبينما كان عبد الله رضي الله عنه يؤدي فريضة الحج أصابه سن رمح كان مع أحد الرجال في منى فجرحه، فأدى هذا الجرح إلى وفاته، ودفن بمكة ، وقد روى كثيرًا من أحاديث الرسول ، حيث روى ألفين وست مئة وثلاثين حديثًا ، وكانت وفاة ابن عمر سنة 74 هـ، وقيل 73 هـ، بمكة وصلى عليه الحجاج بن يوسف الثقفي، ودفن بفخ في مقبرة المهاجرين نحو ذي طوى، وقيل دُفن بالمحصب، وقيل بسرف.
التعليقات مغلقة.