عسلية
بقلم أحمد فؤاد الهادي
عندما رقد عم فكري تحت وطأة المرض، كان بصره معلقا بهذا اللوح الخشبي ذو الأجناب الرقيقة المزركشة والرابض في ركن الغرفة المقابل لمرقده، تلك اللفافات الصغيرة الملونة هي كل بضاعته ورأس ماله الذي يكسب من ورائة مايسد به رمق ولديه ويمكنه من أن يوفر لهما مصروفا يكون في الغالب تعريفة ويصل إلى قرش كامل في أيام الفرج، أحيانا كان الولدان يتسللان صباحا إلى مدارسهم دون أن يشعروه حتى لايسببوا له ألما، وهم يقررون ذلك دون ترتيب بينهما عندما يروا علامات الحزن بادية على ملامحه وهو عائد آخر اليوم إلى البيت حاملا مابالكاد يكفيهما من طعام ومدعيا أن مرسي القهوجي قد عزمه على طعام، فهو لن يأكل.
كان راقدا وعقله يسعى بين لفافاته التي يحبها ويعرفها واحدة واحدة، ويمد إليها بصره فكأنما يربت عليها بعينيه، تلك لفافات الروبسوس البنية، وهذا لبان إيكا الذي تعشقه الصغيرات، أما هذه اللفافات الأسطوانية فهي لأقراص النعناع المنعشة. ابتسم وهو يقول لنفسه: ودي العسلية، أيوه دي النداغة، وده برطمان الطوفي، واللي جنبه برطمان الأرواح، وده بتاع الفندان، ثم حدق في الجدار وكأنه ينظر في مرآة لايراها غيره:
يا سلام عليك يا واد يا فكري.
مرت أيام ثلاثة وهو يشعر بثقل أطرافه حتى أنه لم يعد قادرا على مغادرة السرير، ولولا سيد وأدهم وجارهم الأسطى زين الجزمجي لتحلل فكري في سريره من فرط القذارة. كاد سيد أن يطير فرحا عندما عاد من مدرسته فوجد أباه وكأنه لم ير المرض أبدا، رآه منحنيا على لفافاته، يتحسسها ويشم بعضها، فكأنما انتقل إلى دنياه، وحملته كما كان يحملها، وأخرجته ليدور دورته التي اعتادها لسنوات طوال سعيا وراء رزقه. وفرت دمعة لتبلل لحيته التي طال شعرها، وكأنه يودع عزيزا عليه، أدرك أنه لن يراه ثانية. استدار فلمح سيدا، لم ينطق ولم يئن، بل تحرك بشكل طبيعي جدا حتى بلغ مرقده، فتمدد فيه، واستولى الرعب على سيد مما يرى من أحوال أبيه الغريبة، وانقبض قلبه عندما سمع أباه يهمس بصوت مخلوط بالرضا والابتسام:
ياحاج سيد خلي بالك من الدكتور أدهم.
سكنت الدنيا تماما، أغلقت نوافذها وأبوابها، واهتزت الأرض والجدران بسيد الذي انكفأ يقبل جثمان أبيه، بينما كلماته الأخيرة تفور وتتردد في مسامعه، لعله يفهمها يوما ما. هاهو يقابل الموت للمرة الثانية، كانت الأولى عندما توفيت والدته بعد ولادة أدهم بيومين اثنين، قالوا ساعتها أنها عانت في حملها، وماكان يجب أن تحمل وتلد، إلا أن الحاجة رسمية الداية ولدتها بسهولة ويسر، ومضت بعد أن أرفضت أن تأخذ أجرا، ولم تكن تدري أنها قد تركتها لأمراض لاتعرفها تصيدتها في ذروة ضعفها بعد الولادة.
في المستشفى كان كل جيرانهم يجرون في كل اتجاه بحثا عن الطبيب، ثم لايلبث أن يعود كل منهم إلى حيث كانت أم سيد ليلقي عليها نظرة وكأنهم جميعا كانوا يدركون أنها على حافة الموت. تجمعت كل النساء على صوت الست أمينة وهي تولول معلنة موت أم سيد، ولم تتردد أي منهن في المشاركة بالصراخ ولطم الخدود، وتوالت المشاهد حتى عاد فكري وولده صامتين من المقابر، وحولهما جمع من جيرانهم يبادلونهم النظرات الصامتة. ما أن رأتهم نادية إبنة الأسطى زين ذات السنوات العشر حتى جرت إليهم وهي تصيح:
ياعم فكري، النونو عندنا.
وكأن أحد لم يسمعها، ولم يعرها هو أو غيره انتباها، هرولت خلفهم وأخذت تجذب أطراف ثوب من تلحق به وهي تصيح:
النونو عندنا.
شعر الحاج سيد صاحب واحدة من أشهر شركات السياحة بمن يشد طرف سترته الفخمة، وصوت الطفلة مازال يتوسل:
النونو عندنا.
فاتفض في مقعده الخلفي من سيارته الفارهة، تلفت فلم يجد سوى الدكتور أدهم منهمكا في قراءة أحد المراجع الطبية التي لاتفارقه، والسائق بدا من فرط حرصه وكأنه يسير أمام السيارة على الطريق المؤدي إلى الساحل الشمالي وهم في طريقهم لمتابعة العمل في قريتهم السياحية التي لم تكتمل بعد، والتي شرعوا في إنشائها منذ أكثر من عام، ثم ليبيتا ليلة أو ليلتين بفيلتهم بمارينا.
بدا وكأنه عائد من مشوار طويل سيرا على الأقدام، لاحظ ذلك الدكتور أدهم، وقبل أن يسأله عما ألم به، بادره الحاج سيد:
نادية بنت عمك زين الله يرحمه هاتجوز بنتها يوم الخميس، يبقى بكره لازم نكون في مصر.
وأخرج من جيب سترته الفخمة قطعة من العسلية قذفها في فمه، وكأنه قرر أن يكمل معها حديثه … صامتا.
أحمد فؤاد الهادي – مصر
التعليقات مغلقة.