“عطر منديلها ” من المجموعة القصصية ” موعد للفراق” ..
بقلم : حسام أبو العلا
عرضت أحدث أبحاثها، ثم استأذنت ضيوف المنصة والحضور بالانصراف، وركضت لمغادرة القاعة ولم تتسلم درع التكريم، عدت إلى مكتبي بالجامعة وبحوزتي أوراق الندوة التي أشرفت على تنظيمها ودرع الباحثة “خلـود” الذي أثار انسحابها المفاجئ حيرتي فقد كانت الندوة فرصة لعرض آخر دراساتها على نخبة من المختصين.
في اليوم التالي هاتفتُها لتحضر إلى الجامعة لتسلُّم الدرع لكنها لم ترد، وفي المساء جاءني صوتها الدافئ محملا بعبارات الاعتذار، ثم انهت الحديث سريعا بعد أن وعدتني بتحديد موعد خلال أيام.
فشلت في محاصرة تفكيري ووأد اهتمامي بهذه السيدة الجميلة التي تتردد على القسم الذي أترأسه، ودوما صامتة خجولة، ترتسم علامات الألم على قسمات وجهها البرئ، وتهرب بنظراتها من مواجهة نظراتي التي لو كانت تنطق لصرخت وصارحتها بمشاعري الجياشة تجاهها.
بعد انفصالي عن امرأة “مهووسة” باقتناء الملابس والمجوهرات والسيارات الفارهة لتتباهي بها بين صديقاتها، تفرغت لأبحاثي وترقيت في العمل وتجاهلت عمدا أية محاولة لاختراق قلبي.
توقفت أعواما عن كتابة الشعر وأصبح كالمخاض العسير، فقد جف ينبوع إحساسي وأصبت بما يشبه الانتكاسة في مشاعري، وصارت روحي تعيش في أرض جدباء، ثم أحسست بالرغبة في ترجمة ما يشتعل بداخلي فعدت لكتابة القصائد، وصورة “خلود” لاتفارق خيالي.
جاءت في الموعد الذي حددته شَاحِبَة الوَجْهِ ويبدو عليها الإعياء الشديد، وراوغت عندما سألتها عما تعانيه. أخذت درع التكريم وودعتني كعادتها بهدوء، في هذه اللحظة عزمت أن اخترق الجدار العازل الذي تضعه أمام محاولاتي للتقرب منها.
بعد إلحاح وافقت على احتساء فنجان من القهوة في لقاء بمكان هادئ بعيدا عن صخب الجامعة، وفاجأتني بإحساسها بما يكنه قلبي لها، وللمرة الأولى أراها تبتسم لكن لم تخرج الابتسامة من قلبها، كانت باهتة قصيرة ارتسمت ثوان على وجهها، ثم انطفأت سريعا كأنها تخشى أن تتمرد على ما يكتسيها من حزن.
قالت، وعيناها زائغتان تحملقان في سقف المكان:
“تمنيت لو التقيتك قبل عام، ربما عشت أياما في سعادة انتظرتها طويلا، أعلم كم أنت حنون وصادق، وشبيها في صفاتك بأبي الرجل الوحيد الذي أحببته، لكن صمتك كان يحيرني”.
حاولت الدفاع عن نفسي فلم تعطني الفرصة، وواصلت:
“ما أعانيه من هزال بسبب جرعة العلاج الكيماوي التي أذابت أحلامي العريضة وانصهرت مع أوجاع المرض، والآن لا ينقطع رجائي لله أن يطيل في عمري شهورا لأرى ابنتي التي أفنيت عمري في تربيتها وهي تزف عروسا”.
حاولت انتشالها لو للحظات من الألم، أخرجت ورقة من طيات ملابسي وقرأت قصيدة اتغزل فيها في محاسنها، بكت وطلبت الاحتفاظ بها، وقبل أن ترحل رجوتها أن تمنحني منديلها المبلل بدموعها وعطرها.
التعليقات مغلقة.