عندما يئن الموت … منى الشوربجى
فى حجرة صغيرة حيطانها أسمنتية .. ذات غبار مستفز ؛ وتراب قاهر للعيون .. مظلمة الى حد لا يرى أحدا فيها إصبعه .. الا بصيصا من شعاع بارق من زاوية أشبه بخرم إبرة الخياطة .. خيالات سرب من النمل الأسود وكأنما لم تنظف تلك الحوائط منذ أزمان بعيدة .. ذات سقف من زجاج معتم.. يستيقظ بضعة أناس يتعجبون ؛ يتساءلون .. ماأطاح بهم ليجتمعوا فى مثل هذا الخندق الصغير معا ولا يعرفون بعضهم البعض : ” من أنت ؟ من انتى ؟ “الكل ينظر إلى أعلى سقف الحجرة فيسمعون أصواتا كثيرة وهمهمات غريبة ؛ فمثلا .- تسمع “دلال” ابنتها وهى تتحدث مع ابنها ” لازم تلبس يا كمال باص المدرسة هيفوتك أمامه عشر دقايق وتلاقيه تحت البيت.- تستعجب دلال قائلة : ” لكن مديحة بنتى لسه فى المدرسة أمال بتكلم مين ؟!! ابنها ازاى ؟ يامديحة يامديحة ردى عليا يابنتى انتى مش سامعانى؟ بتتكلمى مع مين وازاى بتقولى انه ابنك انتى دايما مستعجلة عايزة تكبرى !” ؛ فى نفس الحين سمعت “درية” زوجها وهو يناغش الشغالة كعادته ولكنه يقول لها : “يالا ياام العيال حضرى لنا العشا “..قامت مرتعدة من مكانها تقول : “هى مين دى اللى ام العيال هو انت مش هتبطل بصبصة فى الشغالة انت لازم تطلقنى وتريحنى بقى انا عشت معاك كل السنين دى وجبت لك الولد وانت بتدلع الشغالة انت مبتردش عليا ليه يااسماعيل هو حرق الدم عندك متعة ؟! رد عليا انت مش سامعنى والا ايه ؟!!” .- اما “عنايات” فهى تشكى همها دائما فلم يزرها أحد ..وحيدة بلا زوج ولا أولاد ولها أخوها على وأولاده ؛ تامر ونسربن وكانت تمتلك مالا وفيرا والكل ينتظر موتها ليرثها ..كانت “عنايات” حادة البصر فنظرت إلى أعلى الجانب الشرقى من الحجرة فوق السقف فوجدت أبن أخيها وابنته وقد تبدل حالهم من الفقر للغنى فنادت عليهم : “ياتامر يانسرين تعالوا طمنونى عليكم حالكم تيسر ازاى ايه الجديد ربنا يبارك” .. لم يرد عليها أحدا .. فالكل مشغول بما له وبما جد عليه قالت “عنايات” فى دهشة ورعب : ” ليه محدش سامعنا هو احنا فين ؟ ردت عليها دلال : ” فعلا احنا بنصرخ عليهم وماحد شايفنا ايه الرعب ده !!..يارب ايه اللى بيحصل ؟ “..تصعد درية ودلال درجة لاعلى ناحية نور الشعاع حتى يراهما احدا كانتا تصرخان بلا جدوى .. فى حين تسمرت عنايات فى مكانها مفتوحة العينين فى ذعر وخيبة رجاء ورعب لا يحرك لها ساكنا ؛ أطلقت صرخة مدوية يسمعها أهل الأرض لو اجتمعوا مندهشين لما ترقب فقط هذا التامر وكان مشغولا بما فى حوزته إذ بقصعة كبيرة يحملها رجلا بدينا ؛ بها خليط من الاسمنت معجونا بالماء بصحبة التربى لسد فتحة صغيرة جدا فى التربة المدفون فيها عمته ومن معها منذ أعوام ..
ما شاء الله و لا قوة إلا بالله ربنا يحميك يا حبيبتي جميله جدا جدا