عندما يقهقه الحزن بقلم الأستاذة فادية حسون
رفعت أمُّ سليمٍ فتيلَ قنديلِ الكاز قليلا لتستمدّ أكبرَ قدرٍ ممكنٍ من الضوء كي ترتقَ معطفَ سليمّ ابنِها البكر .. فالشتاءُ بدأ ينقرُ على نوافذِ الأفئدة بخجلٍ وهو يتجنّبُ النّظرَ في وجوهِ الفقراء .. خشيةَ الارتطامِ بدمعةِ حرمانٍ مالحةٍ قد تُغيّرُ مذاقَ المطر .. إنّه معطفُ سليم الوحيد الذي اشتراه له أبوه قبل عامين .. كبُرَ جسمُ سليمٍ ..وأصبحَ طالبًا في الثانويّة العامة … لكنّ معطفَه أبى أن يسايرَ ركْبَ السنين .. فتسمّرَ في مقاسِه القديمِ كشجرةٍ يابسةٍ تعفّنت جذورُها …. كانت أزرارُه تتلاقى بالعرى بصعوبةٍ وامتعاضٍ كلقاء باردٍ بين صديقين متجافيين منذ مدة .. كانت أمُّ سليمٍ ترتقُ المعطفَ بحنقٍ وفي قلبِها رغبةٌ عظيمةٌ أن تتحوّلَ إبرتُها الى عصا تفتكُ بكلّ فئرانِ القرية … كلّ تقدُّمٍ ضئيلٍ للخيطِ كان يسردُ قصّةَ فقرٍ استثنائيّ جعلَ حتى الفئرانَ تستسيغُ معطفَ ابنِها الوحيدِ وتنهشُ أنسجتَه بنهمٍ غيرِ مسبوق …كان سليمٌ شبهَ ملتصقٍ بالمدفأةِ المتّقدة.. يقلّبُ في كتابٍ لأحد الكّتابِ الكبار .. كان غلافُ الكتابِ وحدُه يشرحُ المأساةَ لأمِّه التي لا تعرفُ القراءةَ والا الكتابه .. إنّها صورةٌ لشابِّ ارتسمت ملامُح الثّراءِ على محيّاه وملابسِه … كانت الأمّ تدركُ أن ابنها يُجري مقارنةً بينه وبين ذاك الشاب … هكذا حدّثها قلبُ الأم …يؤلمُها جدًّا حين ترى أقرانَه من أبناءِ الحيّ يقتنون هاتفًا نقّالا ..ويرتدون أفخمَ الملابسِ .. بينما حُرِمَ إبنُها من أبسطِ الأشياءِ وظلّت أقصى أحلامِه معطفًا يسترُ جسدَه ويدفنُ فيه صقيعَ الشّتاء … كانتِ الأمّ في سرّها تشكرُ المسؤولَ عن قطعِ التيّارِ الكهربائي عن القرية.. لأنها أرادت من العتمةِ أن تبتلعَ ملامحَ بؤسِها وحزنِها .. كي لاتزيد في الطّنبور نغمًا … ظلّ سليمٌ ساهمًا يحرّكُ شفتيه بصمت .. وفوقَ مساحةِ عينيه هناك حلمٌ يحاولُ الاغتسالَ من أدرانِ الخيبات … لكنّ مطرَ العينين يأتي على هيئةِ شلّال يُغرقُ كل ما يصادفه .. فيفقدُ حلمُه خاصّةَ التنفّسِ ويتلاشى … مطرُ تلك الليلةِ كان ذا وقعٍ خاص .. كلّ قطرةٍ منه كانت تروي فصلًا مأساويّا من شتاءَ جاءَ على هيئةِ ضيفٍ أضاعَ خارطةَ البلدان .. فاستقرّ به المطافُ صدفةً في بيتٍ غيرِ مؤهّلٍ لاستقبالِ الضيوف .. فقد أغراه دخانُ المدفأةِ بالدخول …. غير أن كلّ شيء في تلك الغرفةِ كان ينطقُ بالحرجِ وضيقِ ذات اليد أمام ذاك الضيفِ .. جدرانٌ متصدّعة … سقفٌ نازفٌ .. نوافذُ تبدو كعجوزٍ سبعينيّةٍ فقدت أسنانَها … وبابٌ خشبيٌّ تصفرُ الرياحُ من فتحاتِه و شقوقِه العشوائيّة .. وقنديلٌ عتيقٌ يكادُ زيتُه يجفُّ انتحابًا باحثًا عن كسرةِ ضياء … وأخيلةُ الأشياءِ تتراقصُ على جدرانِ الغرفةِ كأشباحِ نساءٍ أتينَ من عصرِ الجاهليّة يندبنَ حبيبًا قد رحل …فكّرت أمُّ سليم…كيف للفئرانِ تجد في هذا البيت ملاذًا وقد فشلَ الفقرُ في إغلاقِ ثقوبِه وتصدّعاته … تنهّدت من أعماقِها وهي تقطعُ نهايةَ الخيطِ بأسنانها كمن يعضُّ يدَ ظالمٍ امتهنَ التعذيبَ والاذلال … طبعتِ ابتسامةً مزيّفةً على وجهها وهي تقدّمُ المعطفَ إلى سليم .. لكنها كانت موقنةً أنها قامت بعمليةِ تجميلٍ فاشلةٍ لوجهٍ اعتنقَ الدمامةَ والقبح .. لكن نظرةَ سليمٍ اليها جعلت ابتسامتَها تبدو كامرأة عرجاءَ تسيرُ في شارعٍ مكتظٍّ بالأسوياء …تبدّلت ملامحُ الأم حين لاحظت فشلها في ترميم ذاك الجرح الذي أخذ يحيطُ بكل تفاصيلها… أغلقَ سليم الكتابَ ووضعه على كرسيّ قريب .. تناولَ المعطفَ بيده .. أدناه من أنفه المحمرّ من وهج المدفأة … شمّه باشتياق .. نظر الى عينيها فرآهما كعيني شخصّ ينتظر بلهفةٍ مريضًا تأخّر في غرفة العمليات …أراد سليم أن يبشّرها أن المريض قد تعافى .. عانقها بقوة وراح يلثمُ تجاعيدَ كفيها وهو يقول : حسبي أن معطفي قد لمسته يداك الطاهرتان حتى يعود جديدا في عيني … بكتِ الأمّ بحرقة ..وشاركتها السماء بالانهمار … وأعلن القنديلُ عن نضوبه من آخر قطرة من زيته وانطفأ …
وساد صمتٌ ثقيلٌ في حرم الأمومة المقدّس دنّسَ ذاك الصمتَ صوتُ التقاطِ أحد الفئران المتوجّسة في فخٍّ خشبيّ متربّصٍ تحت السرير .. فقفز الاثنان على أثرها جزعًا ..وماءتِ القطّةُ مزهوّةً لأنها حصلت على وجبةِ عشاءٍ دون عناء .. وتعالت قهقهةٌ عفويّةٌ أضاءت عتمةَ المكان ….
التعليقات مغلقة.