عودةٌ من الإجازةِ بقلم: سيد جعيتم جمهورية مصر العربية
اخترقَتنِي رصاصاتُ الغدرِ من خلفي، الأولى أسفلَ القلبِ، الثانية اخترقَتْ عنقي من الخلفِ، أتلفَتْ أحباليَ الصوتيةِ، وقدرتي على ابتلاعِ الطعامِ.
يبذلُ الأطباءُ جهدَهُم لإنقاذي، فوقَ سريري غارقٌ بينَ لحظاتِ الوعي واللا وعي، تغذيتي تتمُ عن طريقِ أنبوبٍ من خلالِ أنفي.
عُدنا من مهمتِنا خلفَ خطوطِ العدوِ بأسيرين وشهيدين؛ حسن وسمعان.. أقسمتُ بالأخذِ بثأرِهما.
نلتفُ حولَ تختةِ الرملِ، عليها تجسيمٌ لموقعِ العدو، القائدُ يوضحُ أهميةَ العمليةِ، نظرَ إلي:
ـ تارك قدامك يا محمود.
عبرنا القناةَ سباحةً تحتَ جنحِ الظلامِ، زحفنَا خلالِ حقلِ الألغامِ، فوجئَ جنودُ العدوِ بنا بينهم، دمرنا الموقعَ، ثأرتُ لسمعان وحسن، أراهما يبتسمان ، نقلت المستشفي العسكري لعلاج إصابتي.
بين اليقظة والغيبوبة أرتحل بين ميدان القتال حيث تعانقت أرواحنا في روح الوطن، وساحة الغدر حيث يسود العقول ظلام الثأر الأسود والنفوس المتنافرة.
ينتشلني من المقارنة وجهُ زوجتي يطلُ علي وهي في وحمِها الأولِ وبكامل بهائها وجمالها تخبرني:
ـ ريحة الأكل بتقلب بطني، رجعت مرتين انهارده، نفسي رايحة للفراولة.
ـ مش أوانها.
نصحتني أمي:
ـ هات لها طلبها، أنت عايز تطلع وحمة شكل حبة الفراولة للمولود، هتلاقيها في سوق التوفقية التجار بيخزنوها في الثلاجات.
أشتَمُ رائحةَ طعامِ أمي، ادخل المطبخ استكشف ما في أواني الطهي، أخرج وانا أمضغ قطعة لحم تفوح منها رائحة الحبهان والفلفل الاسود، يتسائلُ صديقي سمعان:
ـ الحاجة طابخلنا إيه النهارده؟
يمرُ أمامي مشهدُ أبي يخبرُنا بتركِ المدينةِ، يحرصُ ألا يعرفَ أحدٌ مكانَنا فالثأرُ أتونُه لا ينطفئُ في بلدتِه، دارَ حديثٌ بينَنا :
ـ ذنبنا إيه في الحكاية دي، سيبنا بلدنا وأنا عندي خمس سنين، أخويا وأختي مش من مواليد البلد، مفيش أي صلة لينا بالبلد، ليه حطينا في دماغهم ؟
سكت والدي وكأنَّه يسترجعَ أحداثَ الماضي ثم قال:
ـ انقلبت حياتنا بعدَ ما قتل واحد من أولاد أعمامي واحد في خناقة، أخوه قال هاقدم كفني وأنهي خصومة التار، أم القتيل وستات العيلة رفضوا والرجاله طاوعوهم، وأخو القاتل طردته عيلتنا من البلد قالوا إنه جابلهم العار، لحد النهارده بعد مرور سنين ما خدوش العزا ومش هايخدوه إلا لما ياخدوا بتارهم من زينة شباب عيلتنا، أنت وأخوك يا ابني، ملقوش أحسن منكم.
ماتَ أبي ونسيتُ الموضوعَ تمامًا.
سألَتْ ابنتي أمَها :
ـ مين نسمة اللي بيناديني بابا باسمها.
ـ عمة ليكي ماتت قبل ما أتجوز أبوكي ، بيقول إنك شبهها.
منذُ أربعين ليلةٍ أشعرُ بك تحيطُني تبتلعُ كلَ الهواءِ فلا أستطيعُ التنفسَ، وفي مراتٍ كثيرةٍ تكونُ أنيسي في وحدتي، أعلمُ أني حتما ذاهبٌ معك عندما يحين الموعدُ.
تطمئنني وجوهٌ ملائكيةٌ تحيطُ بي، تجسدَ الجمالُ في وجهِ أحدِهم يقبلُني ويبكي، بلَّلتْ دموعِ زوجتي وجهي، ابتسمتُ لها يا إلهي كم أحبُها.
هي الصحوةُ الأخيرةُ، نطقتُ بالشهادتين.
انتهت إجازتي ولا بدَ من العودةِ، تمنيت لو عدت معك شهيدا.
التعليقات مغلقة.