” عود بخور “… محمود حمدون
” عود بخور “
محمود حمدون
===
تتناثر في الأركان عيدان ” بخور “رفيعة رقيقة بنيّة اللون , تتوهج فتنساب من أطرافها سحابات بيضاء ذكيّة الرائحة , يتصاعد الدخان فيضفي على المكان غموضًا , يتلوّى ببطء لأعلى , فيتشكّل في صور غريبة , أشكال تترك للعقل مساحة من حيرة لقراءتها و تفسيرها .
ومن بعيد يُقبل قطار يتهادى برفق , يدخل إلى عرينه , يتثنّى مع أعمدة الدخان المتصاعدة من كل مكان , بدا أن المحطة قد خلت من ساكنيها و غادرها ركّابها وبقيت مقاعدها الحجرية فارغة يتلاعب فيها الريح.
بزاوية بعيدة يوجد كرسي تجلس عليه سيدة نحيفة , شاحبة ,رقيقة الملامح كطفلة بجوارها حقيبة سفر متوسطة الحجم و بيدها كتيب صغير مغلق , تعبث أنامل يدها الأخرى بعصبية ظاهرة بشاشة هاتف صغير , تفتّش فيه عن لا شيء.
تقع المحطة بمفترق طريق صحراوي حينما يلتقي اللونان الأصفر والأخضر و يفصل بينهما ” سكة حديدية ” تتجاوز مدى البصر بخط مستقيم . روّادها قليلون , حتى أنه يصعب رؤية بائع جائل كما نرى في المحطت المجاورة أو البعيدة , رغم ذلك نرى نظافة لا تخطئها العين وإضاءة بيضاء ساطعة تبعث راحة في النفس وخدرًا في الأعين .
توقف ” القطار”,بعد أن أعلن الوجود بقدومه بصافرة تقطر رعبًا, أعقبها صوت من مذياع غير مرئي , ينذر بدقيقتين قبيل مغادرة ” رصيف المحطة ” , حانت نظرة من السيدة لنوافذ الرابض على الرصيف , كانت مضاءة .. فارغ القطار من داخله , منزوعة من عرباته مقاعدها يضرب الهواء بشدة بين جنباتها كطفل يلهو بكرته الصغيرة , باستثناء مقعد يتيم , أطرافه بلون أحمر داكن , تغطّي حواشيه كسوّة ناصعة البياض .!
أسرعت الراكبة, فدلفت من الباب , تخطت العربات سريعًا , يعلو صدرها ويهبط بتأثير خوف غامض , ارهاق الصعود, حقيبتها بيدها تقبض عليها بشدة فبدت عروقها نافرة وعرق يغمر جبينها , ترددت قليلًا وهي تتبّع بعينيها الفراغ الكبير حتى وصلت للمقعد الوثير, ألقت نفسها عليه , بدوره استقبلها الكرسي مرحبّاً فاحتواها بذراعيه ,ثوان معدودات ثم انطلق القطار لرحلة مجهولة , سرعان ما ذهبت في نوم عميق , بجوارها تضطرب حقيبتها مع اهتزاز عجلات القطار .
دقيقة وانبعث من جديد صوت المذياع الوهمي , يُعلن عن قدوم قطار آخر , بدت من بعيد عينه الوحيدة مشتعلة كشيطان هارب من لعنة أبدية , ثم يُسمع إيقاع أقدام تٌقبل مهرولة تتعثر في خطواتها, أنفاس تتقطع , رنين هاتف عليل وصوت حدث دون العشرين مضطربة حروفه يحدّث نفسه كمن يبحث عن دفء فقده الكون منذ عهد بعيد : كدُت أفقده مرة أخرى ..
التعليقات مغلقة.