“عيد الميلاد” قصة لمحمد كمال سالم
صاعقة واعتراك في السماء بين برق ورعد، وجل في قلوب الناس ما يلبس أن يخبو!
مازال المطر يغرق أرضية الموقف، اختزن الماء بسبب ميل الأسفلت تحت الرصيف، كذلك في الحفر والمطبات المنتشرة في الميدان، الضوء المختنق في أعمدة الإنارة، يعمق الشعور بقسوة الطقس ووحشة ليالي الشتاء.
أصرخ في السائقين من خلف زجاج الكشك وهم يتحركون:
(على مهلك ياابني الميه والفرامل)
أعرف أنهم لايسمعونني من خلف زجاج الكشك الموصد، لكن لابد من فرض سطوتي على أية حال.
رائحة عوادم الباصات المختلطة مع بخار الماء، صوت آلات تنبيه السيارات، وصوت السيدة أم كلثوم الصادر من الراديو الخاص بي: ياحبيبي طاب الهوى ما علينا، لو حملنا الأيام في راحتينا ؛ قد أعادا إلي إحساسي بالدفء والنشاط.
حافلة منتصف الليل تأخرت، أنتظر وصولها بفارغ الصبر، حتى أنهي هذه الوردية الباردة الطويلة، هذا المعطف الميري ثقيل بلا فائدة أو دفء، لولا هذه الكوفية التي أعطتها لي ابنتي وأنا خارج من البيت لَمِتُ هذه الليلة هنا من البرد، لقد تجمدت قدماي في الحذاء، كم الساعة الآن؟ أنظر في تليفوني القديم، صغير هو ومظلم لا أرى أرقام الساعة فيه.
أقاوم تجمدي على هذا الكرسي الجلدي، أحاول أن أنهض تحت وطأة ملابسي الثقيلة وقسوة هذا الصقيع، تركت كوب الشاي الساخن من يدي، لا أعرف كم كوبا شربت اليوم؟!
أمسح بخار الماء العالق على زجاج الشباك بكُم البالطو، أحاول تبين ما يجري في الخارج، فالليلة هي ليلة رأس السنة وهذا الفندق الفاخر خارج السياج الحديدي للموقف، قد تزين بالمصابيح الملونة، شجرة عيد الميلاد الكبيرة تتصدر مدخله الزجاجي الفخم، يأتيه الناس بملابس السهرة الأنيقة من كل مكان في مناظر مبهجة، فتحت الشباك، اتفرج عليهم أشاهدهم وهم يدخلون مسرعين للفندق في زينتهم، تاركين سياراتهم الفاخرة للسائسين، صخب ونشاط شديدان هناك، وكأنه بداية اليوم رغم أن الليل كاد أن ينتصف.
ولكن ما هذا، هذه الفتاة؛ مازالت هنا؟!
إنها تجلس على هذه الدكة تحت المظلة منذ ساعات طويلة!
لقد أثارت انتباهي بجلستها هناك في ملابسها الشتوية، وحقيبة الهدايا المزركشة تلك التي تحملها، لمََ لمْ تركب وتنصرف؛ وقد أتى
عليها أناس كثيرون وانصرفوا من المحافظة نفسها التي تجلس على محطة وصولها؟!
تراها ماذا تنتظر،
أم تراها ماذا تخبئ لي تلك المحطة هذه الليلة؟! فلي معها كل يوم قصة، بالأمس وجدوا عليها طفلة صغيرة وفي مهدها رسالة من مجهول ؛ لولا أن تعهد الشيخ سعيد بكفالتها، وإيداعها دار الأيتام، ما انتهينا من تحقيق النيابة.
أرسلت في طلب مساعدي عم رجب وسألته:
هذه الفتاة تجلس هناك لها ساعات طو… ، أجابني قبل أن أكمل:
هي تنتظر أباها سائق الحافلة 312 الأسطى حماصة، كان المفترض أن يصل الآن ؛ لكنه تأخر، هاتها هذه الفتاة هنا ياعم رجب، تراها تجمدت المسكينة من البرد هناك.
يأتي بها عم رجب إلى الكشك، يجلسها على مقعد في مواجهتي وينصرف، تبدو من قريب أصغر سنا من انطباعي الأول عنها، رقيقة الحال في هيئتها العامة، رغم محاولتها الظهور في أفضل حالة، تحاول جاهدة أن تداري ارتجافة تنتابها.
_ قاعدة ليه من بدري يا بنتي بره، ماجيتيش ليه تستني أبوكي عندي هنا؟!
ماكنتش عارفة ميعاد الأتوبيس، ماتصورتش حيتأخر كده ! هو أبوكي عارف إنك مستنياه؟
_أيوه هو عارف، بس قالي ماتجيش، لكن أمي أَصْرّت هي وجوزها إني ٱجي، وأنا كنت عايزاه وجايباله هدية.
ضوضاء وموسيقى صاخبة تصدح آتية من صوب الفندق، انفجارات الألعاب النارية تومض في السماء، بينما جاء عم رجب يحدثني مرة أخرى من خلال النافذة، يرفع صوته حتى أستطيع أن أسمعه:
الأسطى حماصة ركن الأتوبيس بره الموقف ومشي.
أصيح فيه:
ماقلتلوش إن بنته مستنياه؟! مالحقتوش، مشي من غير ما حد يشوفه.
_اطلبه على التليفون.
تنكس الفتاة رأسها إلى الأرض، تضم حقيبة هديتها إلى صدرها، يحتقن وجهها ألما وخجلا،
التليفون يجيب:
الهاتف الذي طلبته ربما يكون مغلقا.
التعليقات مغلقة.