عين الصقر قراءة نقدية في قصة “ظِلّي .. وأنا”
للقاص: محمد الميالي/ العراق القراءة: صقر حبوب/ فلسطين
أولا النص:
ظِلّي .. وأنا
راودني عن نفسي ذاتَ يومْ .. وغلَّقَ الأبوابْ … هَمَسَ بأذنِ الفؤادْ، وتَلا بَسملةَ عشقهِ، جنونيةٌ من أولِ وهْلةٍ، أكْملَ آياتِ الهيامِ فتلبّسَتْ في جوارحي لهْفاً كالشراعِ على جسدي المرهفِ الحسّاسْ … امتلكتْ هَواجِسي، شَعرتُ بطوفانِ بَحرهِ الهائجِ يعصفُ بي؛ همَّ وهَمَمَتُ، حينها جَنحْتُ به الى شواطىء تأملي وضِفافِ سَريرَتي، في جَزيرةِ وحدَتي، ابْتَلّتْ مِنهُ سكناتُ مهجتي، راحَ يلثِمني بلِا هَوادةٍ فَأيْنـَعَتْ واخْضَرّتْ أوراقُ خَريفي.
وهُنا بَدأتْ رحْلَتي مَع ظِلّي الذي لَمْ أشْعُر بوجودِهِ من قَبلُ، لَمْ ألتفِتْ لولادتهِ معي، تَوَسّدَ طولُهُ طولي،
وأغْرَقَني كأسُ تلذذِهِ، فَيْضاً نَرْجِسياً مُفعَماً بِعِطْرِ البَنَفسَج،
ّ اسْتَطالَ معَ شَمسه في سماءِ تبرجِهِ؛ ليسْبِقَ طولهُ طولي، لمْ أعرف حِينها أسْرارَ جسده الشَفيف، ابتَعَدَ كثيراً حتى ارهقَني القَلَق، عادَ يَقْتَربُ، يَتَمايَلُ كراقصةِ السّيرك على حَبْلِ توددهِ وأرجوحَةِ دلالهِ … قَصُرَ طولُهُ من جَديد شَيئاً فَشيئاً كالساحِر ،كلما ارتفعَتْ شَمسُ توهجِهِ.
أحسّ بِتَوتّري؛ خَشي نَباهَتي، فَسَجَدَ تَحْتَ قَدَمي عِنْدَ الزَوالْ، تركتُهُ هنيهةً ليُصَلّي الغُفرانَ على سجادِ البَراءةِ، كأنّهُ يَتَغابى فَتَغابَيْنا مَعاً.
نَهضَ بهدوءٍ واسْتَطالَ طولهُ معَ طولي؛ مُسترخياً،
لكنّما هاجسٌ بَـدأ يَنتابُني ويتلبّسُ جَوانِحي، أدْركَ ذَكاؤهُ فِطْنَتي؛ غَشيَني كُلّـهُ، وكُلّي حَولَهُ، تلبّسني الشيطانُ؛ َهَزّ كُلَّ مَفاصلي … وارْتَعَشَتْ لهُ اسطورة كِياني ، كَيوْمِ صائِمْ؛ ابتلتِ العروق ولَمْ يَثْبت الأجر.
تلا آيةً أخرى، فَصَدَّقْتُ، وكُلما يَتلو أصَدِّقُ لهُ.
فبتُّ أنشدُهُ شِعْرَ العِشقْ، دِفْقٌ يَتلو دفقاً، وهُوَ يَتَلوّى بِجَسدي … يَخترقُ كُلَّ مفصلٍ منّي … يَسيرُ في دَمي؛ تحترقُ الخلايا وتولدُ أخرى، ويَنْحتُ ذاتَه في كُلِّ خَليّة ولِدَتْ للتَوْ، حروفُهُ لمْ تَكُنْ كالحُروف، لا أدري هلْ كِرسْتاليةٌ أم نورانيّة،
أحسستُ حينها بولادةٍ جديدةٍ، وربيعُ عُمري بَدأت تُزهرُ أشجارُهُ، وفاضَ رحيقُ أورادِهِ، وسَكنتْهُ الفراشات وهيَ تُنشد لغدٍ آت، عَزفَتْ أوتاري قصيدةَ الأملِ، وهو يرقصُ أمامي على استحياءْ.
قَطفَ وردةً حمراء وقدّمها لي بأناملِ الخُيَلاء؛ فقطفْتُ لهُ وردةً بيضاء من نبتةِ الصفاءْ، وقدّمتْها لهُ أناملُ لهفي كوثيقةِ سلامْ، كُتِبَ عليها سيمفونيةُ عِشقٍ سرمدي،
ساعاتٌ عُدَّتْ بِلحظات.
صَنعَ من أظلعي ناياً قدَّمهُ لي، وبدأَ يَستطيلُ من جديدٍ، نَبضَ قلبي خوفاً، وارتعشَتْ شَفتاي.
طالَ طولهُ، غارَ عُمْقهُ، يلتفتُ بينَ حينٍ وحينْ، يشاكسني محاولاً تهدئةَ روعي، حتى غَرِقَ في الأفقِ البعيد.
فجنحتْ معهُ الروح الى المغيبْ، عانقَ الأفقَ؛ وانسلّ كلُّ شيءٍ منهُ عنّي .. ابتلعهُ الأفقُ ولمْ يبقَ معي منهُ سِوى ماتركهُ من سحرٍ وتعويذاتِ جنونهِ وجُنَّتهِ في جَسدي، سَكنَ كُل شيء، وجلستُ بَعدَ أن جَمَعْتُ حطبَ مَوقدي، وأشعلتُ نارَ الدِفء، بَردٌ خارقٌ يفترسني.
حينها ادركتُ سِرَّ الناي … فَعزفَتْ أوتارُ اليأسْ أغنيةَ الفراقْ ونفختُ أنفاسي في أمعائهِ، وأدركتُ حقيقةَ ظلّي، كانَ جِن تلبسَ بي وأغواني … استغلَّ جَسدي ليختبىءَ به هرباً من شبحٍ يلاحقُهُ ذاتَ نهار؛ ثمَّ هربَ معَ الغروب؛
فبقيتُ جسداً شفافاً .. لا ظِلَّ.
ثانيا: القراءة:
** تحتوي القصة القصيرة هنا على فكرة، وحدث جوهري (خيالي) يرتبط ب (العالم الواقعي) الذي تعيش به البطلة من أجل إيصال فكرة ما وهي تحديدا تدور حول تلك الهواجس النفسية للمرأة في خريف العمر.
فمن المعروف أن المرأة أكثر تمسكا وحبا للحياة من الرجل وكذلك حرصها الشديد على جمالها وزهرة شبابها والذي تعبث به يد القدر، وعجلة الزمن.
إذاً اعتمد الكاتب على الخيال الواسع في كتابة القصة وأطلق له العنان، ودمج بينه وبين الواقع
مع التركيز التام على جانب واحد.
ولقد اعتمد القاص هنا على (الطريقة التقليدية) في بناء الحدث وهي التدرج كأسلوب من مقدمة القصة وحتى نهايتها.
أما فيما يتعلق بطريقة صياغة الحدث فقد اعتمد طريقة (الترجمة الذاتية) عن طريق استخدام ضمير المتكلم
** بالقصة شخصية رئيسية يدور حولها الحدث وهي ﴿المرأة﴾ كبطلة للنص.
وشخصية ثانوية وهو ذلك
﴿الجن أو الشيطان أو الظل المقترن.﴾
مع التركيز على موقف واحد وهو ﴿الوحدة﴾
وما قد تسببه من عوارض نفسية كالشرود وديمومة الفكر وأحلام باليقظة……..
** اختار القاص (مكانا) محددا لقصته وهو تلك الغرفة الضيقة، وكأنها تشير إلى النفس البشرية والحالة المعنوية للبطلة.
لينتقل منها إلى عالم أوسع من بحار وشواطئ وجزر…
** كما أنه حددها (بزمن) معلوم وهو ذلك النهار إلى ما قبل الغروب.
** نوع القصة ونمطها.
تندرج قصتنا القصيرة ﴿ظِلّي .. وأنا﴾
تحت نمط ﴿القصة السيكولوجية﴾
فينعكس هذا على أسلوب القاص واختياره لمفردات جزلة، ضاربة بعمق اللغة،
فتعمل على تحويل مشاعره وأحاسيسه إلى كلمات تعكس أفكاره الخاصة لكشف خفايا النفس البشرية.
** الأسلوب سردي مركز مختصر يغلب عليه الطابع الشعري فنجد ذلك في
راودني عن نفسي ذاتَ يومْ .. وغلَّقَ الأبوابْ …
(تناص قرآني مع سورة يوسف الأية 23)
في قوله تعالى:
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ
هَمَسَ بأذنِ الفؤادْ…
(استعارة بلاغية)
حيث شبه القلب بإنسان له أذن يسمع بها.
كالشراعِ على جسدي…
(تشبيه)
شواطىء تأملي…
(كناية) عن الرضوخ للذة.
في جَزيرةِ وحدَتي…
(كناية) عن العزلة.
، تَوَسّدَ طولُهُ طولي…
(إشارة عن التملك والتوحد)
يَتَمايَلُ كراقصةِ السّيرك على حَبْلِ توددهِ…
(تشبيه بليغ)
ويَنْحتُ ذاتَه في كُلِّ خَليّة…
مدلول عن عمق الأثر.
صَنعَ من أظلعي ناياً…
للدلالة عن الحزن والألم.
بَردٌ خارقٌ يفترسني…
(استعارة بلاغية) أتى بصفة من صفات الوحوش والضواري وأسقطها على البرد.
ملاحظات هامة:
** تلبّسني الشيطانُ…
أشارت تلك الجملة إلى رمز لحل العقدة وكان من الأفضل أن تترك للخاتمة لذا اقترح الاستغناء عنها.
** ونفختُ أنفاسي في أمعائهِ…
كلمة أمعائه هنا أتت شاذة، ضعيفة لا تتناسب مع زخم الكلمات بالقصة لذا أوصي باستبدالها بأحد الكلمات الأتية.
(أوردته- شرايبنه- عظامه- أحشائه)
بالنهاية قصة قصيرة برسم الامتياز متكاملة الأركان حاكتها يد خبيرة بمداد من ذهب وخاصة ذلك التوغل بعمق في النفس البشريةللأنثى من كاتب رجل.
التقييم على سلم الدرجات ( 9 من 10 )
تحيتي وتقديري
القاص والشاعر: صقر حبوب
التعليقات مغلقة.