غبن الدلالة أو غبن الرمزية قراءة تحليلية للأديب حسن أجبوه . المغرب
النص:
غُبن
أخيراً اشتريت البيت الذي كنتُ أحلمُ به طوال عمري، بيت ريفيّ حقيقي في فنائه شجرة، وتحت ظلّها كلب ينبح.
لكنّ من أوّل ليلة اكتشفتُ أنّ الشجرةُ تجذب إليها الطيور عند المغيب، أمّا الكلب فقد كان نباحه لا يهدأ طوال الليل.
و لأنّي أهوى الهدوء…قطعتُ الشجرة، ودسستُ السمّ للكلب.
في الصباح راودني شعور بأن الصفقة لم تكن مناسبة لي… لذلك أفكر ببيعه والبحث عن بيتٍ ريفيٍّ حقيقي…في فنائه شجرة، و تحتها كلبٌ ينبح.
نزار الحاج علي
القراءة :
أولا وقبل الخوض في تحليل النص، أقول للأمانة، أني مررت على النص من مدة مرور الكرام، فهو في ظاهره يتبدى نص عادي بحمولة تجريبية : شخص يحلم ببيت وجده لكن بما أنه يحب الهدوء، فإنه يفكر في بيعه..مرت أيام، فوجدت قراءة للأستاذ محمد البنا يظهر التناقض بالنص بين الحلم والحقيقة، رجعت وأعدت قراءته لست مرات، في كل مرة أكتشف شيئا جديدا…
لنعد الى النص :
يجمع كثير من النقاد الى أن المفتاح الأساسي لفهم دلالات و ميكانزمات أي نص أدبي هو العنوان، وهناك مبحث جوهري قائم بذاته يتوجه للعنوان بالبحث والتفتيت ( علم العنوان titrologie)، وبأن عتبات( seuils ) أي نص ينبغي البحث عنها بالعنوان فهو مكمن التفاصيل اللاحقة ( دراسات جيرارد جينيث و ليو هويك..) لذلك فاختيار العنوان : غبن لم يأت اعتباطا أو ترفا معرفيا، فالغبن بمعاجم اللغة العربية يعني:
1. ضرر يلحق بالمرء في عقد التزام محدد.
2. ما قطع من أطراف الثوب فأسقط.
3. الموضع الذي يخفى فيه الشيء.
ولأن بطل النص شخص اشترى بيتا طالما حلم به، وتواجد كلمة ” صفقة ” فإن القارئ يتوه ويتوهم بأن الكاتب يتحدث عن المعنى الأول : غبن أصابه جراء عدم ملاءمة العقد لماهو متفق عليه..
لكن، ماذا لو قصد الكاتب المعنى الثالث، وهنا ستغوص قراءتنا للنص بعالم خامس ( كما قال الاستاذ محمد البنا) عالم مواز ينبري لشخصية البطل بالتشريح و التحليل. فبطل القصة من خلال رمزية النص يتخذ مظهر عبثيا متناقضا مع ذاته! على مايبدو رجل يعيش الوحدة والانعزال، فهو لم يشر بالحديث عن تواجد عائلة: الأفعال التي استعملت كلها متصلة مضافة لتاء المتكلم، وهذا يعني أن الرجل ليس له عائلة، فلماذا تحقيق رغبة ذاتية : بيت في فنائة شجرة و تحتها كلب، إذن هذا يدل على شعوره بالوحدة وبالطفل الذي بداخله الذي لم يكبر بعد. الكلب كما هو معروف، ذلك المؤنس هو دلالة على الوفاء والاحتماء عند إغارة الأعداء. والشجرة التي تتوسط الفناء عربون نماء و ترقية والاخصاب. لذا فكل هذه الرموز تحيل على شخصية إنطوائية، معزولة، وربما منفصلة عن الواقع. وهنا مربط الفرس:
لقد عشق البيت ووجده ملائما و يحقق أحلامه التي طالما رغب بها نهارا. لكن ما إن انكشفت تهاليل الليل وأفول الشمس، حتى تعكرت مزاجيته وانقلبت أحاسيسه فقطع الشجرة، وسمم الكلب بدعوى أنها أي الشجرة أصبحت مرتعا للطيور، والكلب ينبح بالليل؟؟!! وهذا لعمري قمة التناقض والانفصال عن الواقع، فلماذا حدثت مثل هاته الوقائع بالليل؟ كما أسلفنا شخصية الرجل تعاني من رهاب الظلام ( النوكتوفوبيا) وهي شخصية تصاب بنوبات من الرعب والخوف الممزوجة بالهذيان، فصاحبه لايستطيع أن ينام، كما لايتمكن من البوح بما يعانيه ليلا لأي كان.
وهذا يحيلنا الى متلازمة ” شهريار ” بطل قصة ألف ليلة وليلة، وشهريار هو ذلك الأمير المارد الذي تعرض للخيانة من زوجته، يعيش حياة طبيعية نهارا ويتزوج من النساء لينتقم منهن ليلا.
كذلك هنا بطل قصتنا( الدافع الانتقامي) حقق حلمه بشراء بيت ريفي بها شجرة واشترى كلبا، لكن خوفه من الليل وما يسستبعه من جلبة و ضجيج عجلا بإسراعه بقطع الشجرة وتسميم الكلب. والدليل تصريحه : ‘ولأني أهوى الهدوء..’ ؛ فالهدوء ليس بهواية، بل هو صفة ملازمة للشخص، وإقراره بأنه يهوى الهدوء، هو تصريح ضمني بالغبن ( المعنى الثالث ) الذي يحاول أن يخفيه عنا كقارئين للنص، هناك شيء ما يدفع البطل دفعا للهروب من مكان لآخر ( ربما طفولته، أسراره، سلوكاته المرضية…) كل ذلك يحدث عندما يجن الليل. فيظهر لنا شخصيته الشيزيفرونية التي تختفي نهارا وتنكشف ليلا، داخل حلقة تعيد وتكرر نفس المشاهد. لذلك تجده في آخر النص يكرر :
‘ البحث عن بيت ريفي حقيقي في فنائه شجرة، وتحتها كلب ينبح’.
التعليقات مغلقة.