غدر الزمان والأبناء بقلم بوعون العيد – الجزائر
كم كانت الأحلام ضارعة ، والٱمال واعدة ، والنّفس تواقة لغد مشرق ، إلى تلك الدّوحة الفينانة السّامقة الأفنان ، الوارفة الأغصان ، من واحة عشّ الزّوجية ؛ تلك الخمِيلة الأسرية ، ذات الظلّ الظّليل ، حيث تتعانق فيه وشائج الرّحم ، وتزهر فسائل الذّرية ؛ هذا الأمل الذي تخاله كلّ أم وأب قنوان دانية من ذاك الطّلع، وتمرّ الأيام والليالي والنُّهر و “أم الأولاد ” تبيت معانقة شوقها ، تستلهم طعم الحياة من بريق دعابة فلذات كبدها ، ونور عينها ، ونصف حشاشتها ، هي كذلك دائبة الحركة ؛ تحاكي النّحلة في غدوها ورواحها ، تحرسهم بنور مهجتها ، شكواهم شكواها ، فرحتهم فرحتها ، مرضهم مرضها ، حبورهم حبورها … هم الدنيا وما فيها . كم سهرت الليالي ، وقضّ مضجعها أنينهم ، وتحمّلت بكاءهم ، وصراخهم ، وغضبهم، دونما كلل ، ولا ملل ، ولا تضجّر ، ولا تأفّف ! بيدأنها ترى نفسها فيهم ، وتكبر فيهم عمرا ؛ لتراهم رجالا ونساء ، فتتنفّس صعداء عناء الغابر ، وتجعل منهم سندا ومتكأ ، وخير رفيق ، ونعم ذخر ، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه ؟! فلما اشتدّ عودهم ، ووهن عضمها ، وتفرّقت جماعتها ، وصار بعيدها قريبا ، ومتكّأها عصاها، تقاذفتها عيون الإزدراء ، والاشمئزاز ، وباتت غير مرغوب فيها ، ولا مكان لها في هذا البيت الذي أفنت فيه زهرة شبابها ، وبنته لبنة لبنة ، وقد يشهد على ذلك دم أصابعها المرتسم على كلّ لبنة ، وكم كانت تراه ؛ واسعا، رحراحا ،رحبا ، وهاهو اليوم يضيق لوجودها ، ويتضايق سكانه بوجودها ، وأضحت تبتلع غصّات الألم وتصعّد زفرات الوجد لمن ربتهم صغارا ! وأرضعتهم لبنا سائغا من حلمة ثديها . إلى أن جاء اليوم المحتوم ، والطّرد من جنتها التي طوت لأجله أيام عمرها ، منتظرة تلك اللحظة التي تبرد فيها عظامها ، وتخرج منه محمولة على أكتاف من كانت تراهم سؤدد عيشها ، ورجاءها ساعة الغوث …! لكن هي اليوم تغادره كراهية منقادة إلى دار تتجمع فيها لواعج الأحزان ، ومكامن الأشجان وأي هي سوى ” دار المسنين ” فقد ودّعوها فرحا ، وفارقتهم شوقا وكمدا ، ودموعا ، خائبة الرّجى ، مكسورة الخاطر ، هائمة ، لا تعرف وجهة ولا منقلبا ! متوشحة بوشاح الحياء ، متأزرة ببرقع الوفاء ، مكفكفة بيديها الهزيلتين دموع الأسى ، فكان المقصد ذلك الكرسي الخشبي من ذاك الجدار ، وما تبقى من بقايا أعشاب ، تستعيد أنفاسها من بعض قطرات الماء المنساب من تلك الحنفية . هي واجمة كئيبة ، ترقب الحوالي ، وقد سرح خيالها بعيدا بعيدا حيث عهدها الذهبي ، مسترجعة شريط الذكريات متمتمة قائلة : ٱه يا أولادي ! لقد حلّق طائر أحلامي لأجلكم عاليا حتى عنان السماء ، وسمت أمنياتي كأنها قرط معلق في أذن الجوزاء ، وأنتم تجوبون البيت طولا وعرضا ، كم تحسست مواطن شعوركم ؟ وأخبرتني دقات قلبي عن حركاتكم وسكناتكم !… كم حرمت نفسي لذة المأكل والمشرب ، والملبس ؟ كي أراكم فرحين مغتبطين ، واليوم هاأنذا أستأنس الوحدة ، وأسامر الفراغ ، وأحادث الصّخر علّه يجيبني ، ويرقّ لحالي ، يا …. ، لقد ابتعتم هناءتكم الدنيوية لإرضاء أزواجكم ، وأوصدتم باب جنة عرضها السماوات والأرض ، وأوقدتم نار شقاء وتعاسة يكبر شررها ، وتستعير جذوتها حتى تأخذ بتلابيبكم . فأسأل الله أن يردكم الحق ردا جميلا ! ، وأن يزيح الغشاوة عن أبصاركم ، والأقفال من قلوبكم !.
التعليقات مغلقة.