غياهب
حسين عيسى عبد الجيد
^^^^^
ثلاث بنات قيل إنهن ولدن في عام واحد،
وفي نفس الحارة،
وذات القرية التي جمعتهن،
فأسماؤهن تكاد تتشابه في رسمها قراءة وكتابة،
فوزية وفكرية وفتحية،
لكنهن مختلفات من حيث الملامح،
فوزية حنطية أنفها مدبب وشعرها ليل بهيم،
عيناها سوداويتان،
وثغرها رقيق يمتزج باللون الأحمر، خلفه حبات لؤلؤ،
أما فكرية؛
يميل لونها إلى الأبيض،
وملامح وجهها هادئة،
فالعينان تتلونان بالبني الغامق، والشعر طويل يميل إلى اللون الذهبي،
أما فتحية؛
تميل بشرتها للقمحي وملامحها جذابة للغاية،
حيث شعرها الناعم الأسود الطويل، وعيناها الناعستان،
أما عن طولهن؛
يتراوح مابين مئة وستة وخمسين سنتيمتر إلى مئة وثمانية وستون سنتيمتر مترا،
ونهودهن عظيمة الشأن،
تضارع الجبال من حيث التكوين وأيضا تضارع أهرام الفراعنة روعة وجاذبية وشموخا،
وقدودهن وأردافهن،
متناسقة مع وزنهن،
ويتراوح ما بين خمسة وخمسين إلى ستين كيلو جراما،
ربما طولهن ووزنهن؛
يتسقان مع المقاييس العالمية لجمال المرأة.
الثلاث بنات، نشيطات، رشيقات، جميلات، وعاقلات!
ربما فوزية أكثرهن جمالا وأكثرهن عقلانية.
منذ بواكير سنواتهن الأولى وهن معا، فلا توجد مناسبة في الحارة أو القرية اللائي ينتمين إليها،
إلا ويتواجدن معا،
حتى كبرن وصرن صبايا، يخطفن لب الرجال،
تزوجت فكرية وفتحية،
وجلست أم فوزية تندب حظ بنتها العاثر،
وراحت تضرب أخماسا في أسداس، وكلما رأت أطفال صديقتيها؛ تزداد وجعا على بنتها الحسناء،
وأختيها اللتين طرأت عليهما فواكه الأنوثة،
تريد أن تزوج ابنتها لأي طارق يأتي من حيث لا تدري،
وتأمل أن تمنح الفرصة لأختيها الصغيرتين،
فقانون العادات والتقاليد ولاسيما في القرى؛ لايسمح للبنت الصغرى
أن تتزوج قبل الأخت الكبرى، وإن حدث؛ يتسبب في أذى نفسي شديد للكبرى،
ولو تزوجت بعدها بفترة قصيرة ستظل تعاني،
ثم تتوالد الغيرة بين الأختين للممات، لذلك الأم تريد الخلاص من فوزية والتي تعدت الثلاثين ربيعا،
حتى تستطيع زواج أختيها الأخرتين وقبل أن تموت،
هكذا تفكير الأمهات في كل زمان ومكان،
فكلما خرجت إلى السوق؛ تسحبها لعل وعسى…،
لكن دون جدوى، بدأت تعرضها على بعض شباب الحارة وتجهيزها ودون أي مهر،
لكن للأسف لم يتقدم لها أحد،
كل يوم الأم تزداد حزنا على ابنتها، وتقول :
بنتي أجمل من صديقتيها اللتين تزوجتا وأنجبتا،
فكيف لا يتقدم لها أي شاب؟
أو أرمل؟
أو حتى مطلق؟
رويدا رويدا!
توغلت بدماء أم فوزية الريبة وتمكنت منها،
حتى احتل الشيطان رأسها!
والفأر يتلاعب بصدرها،
لكن الأمر بات محيرا لها،
وراحت تتمتم :
نحن أسرة محبوبة من أهل الحارة ومن القرية كلها،
فلن يؤذينا أحد!
ربما زوجة عمها تغار مني لأني أجمل منها، وستنتقم من ابنتي
ومازلت حتى بعد وفاة زوجي منذ عشر سنوات ملامحي كما هي، بل أزداد جمالا
رغم بلوغي الأربعين ونيف،
فهي لا تنسى عندما كنا نتسوق وأمطرني الرجال بكلمات الغزل دونها،
أو لأني خنت زوجي؛
عندما أبرم عهدا مع أخيه أن تتزوج فوزية من ابن عمها، ثم مات!
قطبت حاجبيها؛
وساقها الشيطان
إلى بيت عم فوزية؛
لتتأكد مما تشك فيه،
أو أنها على يقين بأنها السبب الوحيد؛ لتجعل البنت في صفوف العوانس، رمقتها مليا،
وسبتها في نفسها:
يابنت ال…،
أثق أنك وراء هذا الأمر،
زوجة العم لوت شفتيها هنا وهناك دون أن تراها أم فوزية،
ثم بادرتها بسؤال؟
كيف فوزية؟
ألم يتقدم لها أحد؟
مسكينة قاربت على الثلاثين ولم يتقدم لها أحد،
كل شيء قسمة ونصيب، فربما عدم زواجها خير لها،
ثم إنك رفضت زواجها من ابن عمها!
ولو كان أبوها حيا بيننا؛
لتغير الأمر!
أنسيت؟!
وأردفت زوجة العم:
من في عمرها صار عندها أولاد وبنات مع ابتسامتها الصفراء المعهودة لها منذ كانتا قاطنتين معا في بيت واحد،
غلى الدم في عروق أم فوزية وقالت :
البركة فيك،
قالت منزعجة: في أنا،
ثم نادت زوجة ابنها الحسناء تقدم لها واجب الضيافة،
والتي دخلت عليهما تتهادى من بعيد كمهرة، ترتدي أساور ذهبية من المعصم إلى الكوع، وخلخالا يدق بقوة بصدر أم فوزية، ورضيعا بحضنها، وبنتين لها تتعلقان بثوبها،
عندما رأتها أم فوزية؛ كادت أن تفرقع غيظا وندما، ثم صرخت :
لن أشرب أي شيء، فعندما كنت أزورك أنا وفوزية؛
لم يصب البنت رباح،
متخفيش يا أم فوزية أنا معرفش سحرة مع ضحكة عالية كادت أن تكسر قدمي أم فوزية؛ عندما فتحت الباب بقوة وهي تركض فوق الدرج متوجهة لبنتها تطمئنها،
بنيتي أوشكت على الزواج فلا تكترثي،
وقد تأكدت تماما أن زوجة عمك عملت لك سحرا؛
جعل كل شباب ورجال القرية يعزفون عنك.
لم تكترث البنت لكلام أمها،
لكنها ابتسمت ابتسامة أمل بعد سنوات عجاف،
فقد احتلها الوهن والحزن،
الآن تغيرت ملامحها عن ذي قبل، بمجرد أن بثت أمها فيها الأمل،
فتوردت وجنتاها،
وبدأت المسكينة ترسم أحلاما لسنوات عشر خلت من زواج صديقتيها،
وراحت تقلب في صندوقها،
حيث قمصان نوم وعطور وصابون، ومفارش وستائر،
كانت قد اشترتها منذ أمد.
ثم بدأت الأم طريق فك السحر،
تذهب بها للشيخ تارة،
وتارة أخرى تذهب لأحد أضرحة الأولياء الصالحين،
وقطعت القرى والمدن المجاورة طولا وعرضا،
بحثا عم يستطيع فك هذا القيد اللعين،
فسمعت بمنأى أن هناك من يفك طلاسم الأسحار،
فرحت كثيرا وبدأ الأمل يراودها في زواج ابنتها،
فلابد لها أن تدرء ما حل ببنتها من كارثة عظيمة،
وأوشكت على حلها بعدما تأكدت من التي فعلتها،
جذبت البنت وركضتا إلى ذاك الساحر، الذي يمكث وحيدا في بيت مهجور،
طاف حولهما وقال :
إن قيد ابنتك عندي،
ومنذ عشر سنوات!
ومنذ أن تزوجت الصديقتان!
الأم ذهلت؛ عندما أخبرها باسمي فكرية وفتحية صديقتي فوزية!
ومن قيدها؟
دعك الآن ممن قيدها،
وهل ستستطيع فك قيدها؟
نعم، ( قالها واثقا)
وماذا تريد؟
قلي أنت ماذا ستعطينني؟
سأعطيك كل مجوهراتي وكل مالدي من أشياء نفيسة،
وماذا أيضا؟
سأمنحك ما تريد من نقود،
فقد ترك زوجي لنا إرثا كبيرا،
وماذا أيضا؟
سأمنحك قطعة أرض لتكون بيتا وبدلا من هذا البيت المتهالك،
اتفقنا،
لكن!
لن أفك القيد إلا بشرط،
ولن تتزوج إلا من خلالي، فلا تضيعي وقتي،
فهناك شاب ينتظرني، فقد تزوج منذ أمد،
ومازالت زوجته عذراء!
وهناك آخرون في انتظاري!
ما شرطك؟
أشار بيده إلى البنت والتي دفعتها الأم لتكون بمقربة منه.
تأملها مليا وقال
انزعي غطاء رأسك،
فكي ضفائرك،
ثم بدأ الطواف حولها،
فوزية لم تحتمل تنهيداته الحارقة،
وركضت باكية إلى البيت بعد أن لملمت شعرها المبعثر، ورفضت كل محاولات أمها للبقاء حتى يستطيع أن يفك القيد.
قال : حسنا،
وأستطيع أيضا أن أفك قيدها من خلالك أنت،
الأمر بسيط،
بسيط للغاية،
اقتربي أيتها الأم الساحرة، تلك الكلمة التي وقعت على مسامعها كزخات مطر فوق جسد يريد الأرتواء،
اقتربت بهدوء ودون توجس،
كرر الطواف حولها مرات عديدة،
فحصها من أخمص قدميها إلى شعر رأسها، والذى تهادى على كتفيها دون أن تشعر،
أو تفهم صراخه والذي بات دون بلل لعشر سنوات خلت من وفاة زوجها، فبمجرد أن أومأ برأسه؛
ركضت صوب أريكته الحمراء.
ويقال إن فوزية لم تتزوج بعد!
5/8/2020
حسين عيسى عبدالجيد / مصر
التعليقات مغلقة.