فايز ابو جيش…قراءة في المكبوت الشعري…بقلم كريم وهاب عبيد “جهاد العيدان”
الغربة تتجلى في مظاهر واتجاهات ومواسم عديدة تتساقط على قريحة الشاعر لتنتج لنا نوعا من الشعر المتبرم المتوجس تارة او المفجوع باللوعة تارة اخرى , سيما وان الزمن الحديث مكبوت ومكبوس بالقضايا السياسية والازمات الحياتية وغياب الكثير من الخصوصيات الانسانية ومشاكل المجتمع المدني الجديد حيث تؤدي هذه التراكمات الى تبرم الشاعر الحساس من البيئة المدنية التي حولت الإنسان إلى مادة محنطة بالقيم المصطنعة الزائفة، وهذا المكان المخيف هو المدينة العربية المعاصرة التي عَلَّبَت الإنسان وشيأته، وافرغته من الروح وسكبت عليه احتباسات نفسية قاهرة ، كما ان القضايا السياسية باتت تؤرق الشاعر وتضغط عليه بكل اسقاطاتها , كما ان الانسان الحالي بات يمارس احتفالية الاقنعة او الوجوه المقنعة مما ضاعف من محنة الشاعر ازاء تعدد الوجوه وحصره في حالة ضغط نفسي يعاني منه ليتضاعف لديه وباء الغبن الذي سرعان ماتضاعف في زمن وباء كورونا والاحتجاب في المنزل والحصار الصحي وماالى ذلك من ارتدادات جعلت الشاعر يتوكأ على اكثر من عصا محاولا التعبير عن اوضاعه النفسية والاجتماعية والسياسية ولو بشكل ترحيلي للازمات تارة او الثورة عليها تارة اخرى , لدرجة ان الشاعر السوري فايز ابو جيش حاول استحضار قيم اصيلة لاستبدالها بالحياة الجديدة الالية المفروضة بشكل مخيف على الحياة الانسانية ليتسلق الامنيات ويحاول بناء المدينة الفاضلة او المدينة المهدوية التي تتعايش فيها الذئاب مع الشياه وتنمحي الصحاري لتحل مكانها الجنائن حيث يصدح بالقول
متى تخلو من الكُرْهِ الحياةُ …………ويُنفى منْ على الأرضِ القُساةُ
متى تسبي عيونُ الهرِّ فأراً……….و تهوى الذئبَ في الصحراءِ شاةُ
إذا ماسادَ عُرْفُ الحبِّ فينا ……………..يسودُ الكرهُ والحقدُ الحياةُ
فهذي الارضُ تُنبتُ إن أحبّتْ…………….وإنْ كرهت فلا ينمو النباتُ
تهيمُ الشمسُ في الدنيا فننجوا ………ولو حُجِبَتْ سيغشانا السُباتُ
ونغرقُ في بهيمِ العتمِ حتّى…………..نظنُ الموتَ في الأرضِ النجاةُ
فحبُّ اللهِ فرضٌ في الانامِ………………وحبُّ الناسِ في الدنيا زكاةُ
سأعشقُ ماحييتُ وإنْ رحلتُ …………..ستعشقُ مدفني تلكَ الرفاةُ
فهذيِ الأرضُ دونَ الحبِّ قبرٌ………………..وقبرٌ ملؤهُ الحب الحياةُ
الغربة في الحب الذي أصبح زيفا مصطنعا وبريقا واهما, والغربة في الحياة مع الاخرين المقنعين المتعددي الوجوه والالسن والافعال مما اصاب الحالة الاجتماعية بتصدعات قيمية انعكست على رؤية الشاعر وعلى تطلعاته التي يرى ضرورة العودة الى الاصالة او يبث الشكوى من جور الزمن والانسان والحياة .
كما ان الغربة تلبست في الكلمة من خلال انعكاس غربتها الذاتية على واقع لا يعرف سوى الصدى وخنق الحقيقة و قتل الكلام الصريح الذي قد يتحول إلى حجر عند بعض الشعراء او قد يتحول الى تبرء من كل شئ لتراكمية الفاجعة وثقل المصيبة حيث وجدنا الشاعر فايز ابو جيش يتبرء من العرب والعروبة في قصيدة “من يشتري الاعراب مني”
من يشتريهم كلهم جمعاً
بحِملٍ من حطبْ
من يشتري أشرافهم
بحذاء طفلٍ من حلبْ
من يشتري أذقانهم
ولهُ إذا شاء الشنبْ
ما قد سمعنا عاقلاً
يبتاع من تيسٍ ذنبْ
من يشتري الأعراب مني
والعروبةَ والعربْ
بمخاط طفلٍ قد بكى
قهراً على أمٍّ وأبْ
مسكينةٌ يا طفلةً صاحتْ
وقالت يا عربْ
أشلاؤها قد بعثرتْ
من حضرموت إلى النقبْ
وتقول لي أين العربْ
سحقاً لهم
من رأسهمْ حتى الذنبْ
من يشتري أشعارنا
أقلامنا
أحلامنا
خيباتنا
أحزاننا
أوجاعنا ويأسنا
خداعنا نفاقنا
من يشترينا كلنا
بنواة تمرٍ فاسدٍ
أو شسعِ نعلٍ من خشب
من يشتريكَ أبا لهبْ
اغضبْ فقد حان الغضبْ
كالنارِ وأهدر كاللهبْ
ما كانَ يجدي صمتنا
أبداً ولا تُجدي الخطبْ
بغدادُ أنهكها العِدا
والقدسُ فينا تُغتصبْ
والعُربُ إمّا صامتٌ
أو شاجبٌ أو مُسْتلبْ
أو خائفٌ أو خائنٌ
باعَ العرُوبةَ والعربْ
وتقول لي أين العرب
سحقا لهم تعساً لهم
تباً لهم بل ألف تب
من رأسهم حتى الذنب
فرساننا باعوا الخيولَ
ليشتروا فيها الذهبْ
وسيوفنا نلهو بها
ورماحنا أضحتْ قصب
وشبابنا أمسوا دمى
لا روح تحوي كاللعبْ
أحياء نبدو إنما
أموات من فوق التربْ
حدّث فما يجري لنا
منا و ندري ما السببْ
حدّث عن الطفل الذي
أرداه عنقود الغضبْ
حدّث فتاريخ العدا
بالغدر والنسغ انكتبْ
حدّث عن السلم الذي
أمسى كمن يرعى الدببْ
حدّث فإنا أمة
تهوى أحاديث العتبْ
فالموت حق إنما
للحق موت قد وجبْ
والعيش في ذل العدا
كالعيش مع سكنى الزربْ
وتقول لي أين العرب
سحقا لهم تعسا لهم
تبّاً لهم بل ألف تبّ
من رأسهم حتى الذنب.
القصيدة هنا تعبير اسقاطي يقطر بالالم والندم والغربة والعويل ,هذا النموذج يرسم لنا بريشة الالوان المتداخلة والاضواء المتعاكسة حقيقة وتداعيات المشهد السياسي الكئيب الذي تمر به الامة حيث تجري السياسة على نسق خارج المالوف ,وتتحول المقدسات الى مستباحات وتباع القضية المركزية في سوق النخاسة ويقتل العرب بعضهم بعضا , فيما يتاسد العدو ويكرم ويصبح الصديق رغم كل الدماء والجرائم والمصائب التي جرها على المنطقة وعلى الامة ,انه يمزج بالوان فرشاته الشاعرية الألوان الخفية الخافتة للغربة، وسط اصطفاف سياسي مريع لبعض السماسرة من الحكام والمطبلين ,فبينما تباد الشعوب وتثوي الى اجداثها محملة بالدماء والهشيم الجسدي المتشظي , يحتفل الحكام وسط الاضوية الحمراء وتحت مناظير العيون الساهرة على اشلاء الاطفال وجماجم المقاومين , ليشربوا نخب التطبيع وبيع الامة في سوق المزاد ,فالقصيدة جسدت الغربة في المكان والغربة في الزمان والغربة في المدينة والغربة في العجز. والغربة في القبور , هذه الغربة تتفرع عنها الغربة في الحياة والغربة في الموت والغربة في الصمت والغربة والغربة في التطبيع والاستسلام الرخيص , مما ولّد تلك الثورة وتلك الانتفاضة لبيع كل مايرمز للعروبة على ايقاع الخيانات والنكبات والممارسات اللااخلاقية .
كريم وهاب عبيد
المعروف: جهاد العيدان
التعليقات مغلقة.