موسوعه أدبية شاملة

teen spreads her legs for jock.https://fapfapfaphub.com

فلسفة الحياة والموت في المجموعة القصصية “رقم غير موجود بالخدمة” لمحمود حمدون قراءة انطباعية سعاد الزامك

815

فلسفة الحياة والموت في المجموعة القصصية “رقم غير موجود بالخدمة” لمحمود حمدون

قراءة انطباعية سعاد الزامك


مقدمة


النقد ليس بعملية بسيطة أو سهلة من وجهة نظري، فالناقد أقرب ما يكون للمُحلل النفسي، فهو يحاول جاهدا فك الرموز والتلميحات والإيحاءات الموجودة بالنص، يستمع لكل همسة خافتة تصدر من بين السطور، يفكر، يحلل، ثم يربط بين (هذا) و(ذاك). فالعملية النقدية تحتاج مراحل عديدة من التداعي الحُر للأفكار والتأويل والتفسير لكل لمحة أوشاردة مهما كانت بسيطة. يبحث الناقد أحيانا عما أراد البوح به الكاتب ولم يستطع أو لم يرغب به، وكأنه يفتش تلقائيا عن “وعي” صاحب النص و”لا وعيه”، فالنص كالحلم المبهم بالنسبة للناقد الذي يسعى لتأويله. لقد حاولت الاجتهاد قدر استطاعتي لقراءة ما بين سطور تلك المجموعة المرهقة كسابقيها لـ “محمود حمدون”، فهو كاتب تشق كتاباته على القارئ إن لم يقرأها بتمعن، وأتمنى أن تكون قراءتي للمجموعة على قدر ثقته.
يقول د. عبد الفتاح الديدي: من الناس من تستهويه الحياة إلى حد الرغبة في نقل صورها وأنماطها في نماذج كتاباته ومواقفه المختارة. إنهم يودون بعث الحياة ذاتها بين سطور كلماتهم ودفع الأحاسيس الدافئة إلى داخل أقاصيصهم وحكاياتهم. ويقول “حسين القباحي”: أي حدث مهما يكن بسيطا وأية جملة عابرة وأية ضحكة يسمعها الانسان وهو سائر ليلا، يمكن أن تكون موضوعا لقصة.. بل ولعدة قصص مختلفة.. وكل ما يحتاجه الأمر هو الخيال. والكاتب نفسه قد يعجز- بعد أن يكتب قصته- أن يعرف الحدود التي تفصل الحقائق عن الخيال فيها.. والفرق بين كاتب قصة ممتاز وآخر متوسط هو القدرة على التخيل القائم على أسس منطقية ومبررات معقولة.
وأنا أجزم أن ذاكرة “محمود حمدون” متخمة بالشخصيات والمواقف التي عايشها أو سمع بها واحتفظ بأبعادها وبيئاتها. إن تصوير الشخصيات يحتاج الإلمام بعلم النفس ومخالطة أنماط مختلفة من الشخصيات، وأتصور أن “حمدون” يضع نفسه في موضع شخصياته ليرسمها بدقة بعد تفكير عميق في تصرفاتها وطريقة تفكيرها وتصرفاتها المنطقية التي تلائم الموقف المراد سرده، فهو يمتاز في التقاط أبسط الأمور، فيلوكها يراعه، ثم يلفظها في قصة قصيرة قد يحتار هو نفسه في تخيل كيف آل إليه الموقف أو اللقطة البسيطة إلى قصة جديدة تختلف عن أصلها المُعاش سواء أكان ماضياً أو حاضراً.
يقول الكاتب في تقديمه للمجموعة: وبعض الناس لا ينقطع رنين هواتفهم، يبصرون الحياة وهي قادمة بصدرها عليهم، فيعتقدون أنها دائمة، فإن رحل الضجيج، وهو حتما سيمضي كما جاء وكما فعل بغيرهم، خمد الهاتف، ومن ورائه يخفت بريق الحياة بين أهداب صاحبه بمرور الوقت. لقد شرح مدى تعلق البعض بضجيج الحياة ممثلا في رنين هواتفهم، وعدم توقعهم خمود ذاك الرنين يُشعرهم بأهميتهم حتى وإن كان الاتصال رياءً أو طلبا لمصلحة.
عندما ينقطع المرؤ عن استخدام هاتفه لمدة طويلة يُلغى اشتراكه بخدمة المحمول التابع له خطه، عندئذ يسمع المُتصِل (هذا الرقم غير موجود بالخدمة)- عنوان المجموعة القصصية-، تلك العبارة كما صورها السارد (رسالة باردة قاتلة) تنبئ بفقدان التواصل مع صاحب الرقم، فعبر عنها السارد (حط ظلام على الهاتف، وحل به صمت الموتى). بالمثل في الحياة ينقطع التواصل مع الإنسان وينقطع رنين هاتفه في عدة أحوال (بوفاته أو خروجه من العمل أو خروجه عن نقاء السريرة بفساد ضميره مثلا وغيرهم من أسباب). بالتأكيد سيتفكر المتلقي في كيفية انقطاع الإنسان وعدم وجوده بالخدمة، سيطرح تساؤلاته عن كيفية الخروج من الخدمة وعن سبب الرحيل وعما يهم الراحل قبل رحيله وعما بعد الرحيل. صدّق السارد على تلك التساؤلات حين قال (تُرى متى تأتي اللحظة الفاصلة؟ متى يحين موعد الرحيل؟ ذلك الذي ينحته الزمن بمخالبه القوية في أنفس مُترعة قلوبها بالريبة).
الرحيل المتعارف عليه يكون إما ماديا (بالوفاة أو السفر أو الغياب الطويل)، أو معنويا (بالخروج على المعاش الوظيفي أو الخروج عن القيم والأسس القويمة وغيرها). ضرب لنا السارد بقصة “مدينتي الوادعة” أنموذجا- نراه أحيانا بالواقع- لمسؤول كبير “غير موجود بالخدمة معنويا”، وهنا الخدمة رمز للوقار والعِزة-، فله من الجبروت خارج منزله ما يرفع شأنه صوره السارد (تلك البرودة التي يلقيها بأفئدة العباد إن رفع يده بالتحية)، (الحرس الحديدي يحيط به، بدت السماء وقد أوشكت أن تنطبق على الأرض من رهبة وخوف)، بينما يكتشف القارئ دونية وضآلة هذا المسؤول أمام جبروت زوجته حين عاجلته بقولها (اتلهي مكانك، رايح فين يا ابن ال…).
يقول “هيدغر”: أن الكائن الموجود منذ أن يعي نفسه يصبح مرشحا للموت وتبدأ حياته تنمو في ظل حداده وهذا ما يجعل الكائن البشري مُعدا للموت غائصا في لُجة اليأس يبحث عن معنى الحياة التي تصب في فجوة الموت المرعبة والمعتمة. بدا الرحيل المادي للمتلقي- الموت- كما عبرت الذات الساردة عنه ونظرتها إلى ما قبل وما بعد الرحيل (الحياة قصيرة)، (أقسمت ألا أترك خلفي تركة يتقاتل عليها الأبناء وحفدتي)، (أو يلعونني في قبري).
خصائص المجموعة القصصية “رقم غير موجود بالخدمة”:
• من خلال الترحال بين نصوص المجموعة يلاحظ المتلقي أن بعضها غامضاً، يثير في نفسه الحيرة تارة والتساؤل تارة أخرى، حيث يعمد الكاتب إلى الإبهام والغموض الذي يفضي إلى نهاية غير محددة المعالم بلا حلّ يزيح ذلك الغموض أحبانا.
• يعتمد السرد على الزمن الحاضر، فيبدأ به السارد، ثم يرتد إلى الماضي (فلاش باك) بسرد ذكريات سالفة، وإن انتاب القارئ الحيرة أحيانا من زمن القص، فيتساءل أكان الحدث بالماضي أم الحاضر أم مزيج بينهما.
• تتنوع نهايات السرد، فمنها النهايات المفتوحة وأخرى مُحيرة، يراوغ الكاتب بها قارئه ليفتح بذهنه سراديب الوعي والتساؤل، وأحيانا تتميز النهاية بالفكاهة، وإن حملت بين طياتها معانٍ يتصيدها العارف كخاتمة قصة “أبعاد جديدة”، وخاتمة “أعصاب الرجال” التي مالت نحو الكوميديا حينما هرول الجميع لإغاثة السيارة وتركوا صاحبها المُصاب، فأحدثت الدهشة للمفارقة لغير المتوقع.
• جاء السرد بصيغة المتكلم “أنا”، بأسلوب منمق اتسم بالعمق والمعرفة وبلغة عربية سليمة، وإن خالطها اليسير من مفردات أجنبية مُعربة مثل “كوفي شوب”.
• لم يخلُ السرد من الشاعرية أحيانا رغم جديته على سبيل المثال (يفيض بئرك ببعض سرّك)، ((بضيق سرعان ما تبخر من على ثغرها)، (يمسك بمخالبه عقارب الزمن مُصرّاً أن يلويها عكس اتجاهه).
• الإفاضة في الوصف أحيانا دون أن يصيب المتلقي بالملل، ليخدم الحدث ويوضح أبعاد الشخصية، فمثلا حين وصف الموظف البسيط بقصة “سكر أبيض” (أنيق في ملبسه، يُجهد نفسه في تسوية شعر رأسه، ويُسبغ عليه من وسع كي يبقى مستقرا على جبينه…)، (لا تلاحظه إن رأيته في الصباح بين جموع الهائمين على وجوههم…)، (جسده الممشوق الذي يخلو من ترهل البطن…).
• اعتمد الكاتب على الحوار بين الشخوص لإيصال الفكرة وتأكيدها للقارئ كما في “غلالة رقيقة”، “رقم غير موجود بالخدمة” “مُتع الدنيا” على سبيل المثال.
• الاستفادة من القاموس القرآني والنبوي بصورة مباشرة وغير مباشرة، فعالج مثلا قصة سيدنا “نوح” في نص “صاحب بيت” الذي يتحدث عن جائحة عمت البلاد، فحبست أهلها بدورهم، فوصف البيت أثناء الجائحة (جبل يزعم الناس أنه سيقيهم غائلة الطوفان القادم)، (هذه بضاعتكم رُدّت إليكم)، (كالبنيان المرصوص).
• الإستعانة ببعض المقولات الشعبية مثل (قهوة دائمة) والتي تنم على ديمومة التواصل وكرم الضيافة.
• لم تتواجد الأسماء أحيانا، فهي بالنسبة للسارد (فقدت اهتمامي بمعرفة أسماء الناس)، (أنها شكليات لا تدل على حقيقة أصحابها)، (هي علامات على الطريق).
• لم يغفل السارد أحداث “25 يناير” وتوابعها، فاستغل أحد المصطلحات التي أُطلقت على المُحايدين للأحداث حينها، وعنّون به أحد نصوصه “حزب الكنبة”.
• لم يبخل السارد على قارئه بفلسفته الحياتية، فطرح اليسير من وجهات نظره سواء أكان ذلك تلميحاً أو تصريحا، فاتسمت بعض النصوص بالرمزية أو البعد الفلسفي. فمثلا صرح برأيه عن حقيقة موت الكاتب وإن لم يفارق الحياة، فموته يكون بانقطاع فيض قلمه، فيكون أشبه بموت إكلينيكي. في قصة “نهر الطريق” الشاعر- “عبد الفتاح” صاحب الديوان الأوحد- مات فجأة (حين تسربت له وشاية أن فطاحل الشعر أقاموا سدّا كبيرا بنهر الطريق، يحجب فيض القريحة ويمنع الفيضان). كذلك صرح في “غلالة رقيقة” برأيه في الديمقراطية التي شبهها بالستارة (التي لا تكاد تخفي ما وراءها، لكنها تضفي بعض الزينة على المكان، بها نعالج بعض عيوب تعترض بصرنا للحائط)، ثم استرسل في الشرح والتوضيح وعقد مقارنة بين ديمقراطية الدول المتقدمة والدول المتأخرة. وقد تكون الرمزية أحيانا سياسية (بات بلدنا كقطعة لحم بين شقي رحى، حشرنا منذ الأزل بين الشرق والغرب) (أردف بصوت خفيض يقيض بألم غامض: هما عدوان لا يرحمان) دلالة على الصراع بين الشرق والغرب وبرهن ذلك حين أخفض صوته خشية بلوغ تذمره إلى عدوه. تتسم عناوين بعض القصص بالرمزية كذلك كقصة “موج الحياة” ليوضح للمتلقي مدى تقلبات ووحشية الحياة، فهي كبحر متلاطم الأمواج المسافر فيه قد يضل الطريق، فيقول (يُسلم زمامه للمجهول)، (وجدته غائبا كمسافر ضل طريقه)، (وجدت بقايا لآخر أعرفه). وفي قصة “صاحب بيت” وضع الكاتب فلسفة وجودية على لسان بائعة الخضر– والتي من المفترض أن تتسم بالبساطة المعرفية- فتقول: أتخشى من الوجود بعد أن علمت بوجوده، أم ينبغي أن تهاب المجهول ذلك الذي يربض بيننا منذ أن وجدنا؟!
• تنوعت علاقة العناوين بالنصوص، فمنها المباشر ومنها الرمزي- كما سلف- ومنها المُحير كما بقصة “صاحب بيت”، لكن بالقراءة المتأنية تنقشع الحيرة، فالسرد يتحدث عن جائحة تقبض النفس التي قُضى عليها بالموت، وتُرسل أُخر لأجل مُسمى، وينتهي (حط ظلام على الهاتف وحل به صمت الموتى)، وكأن السارد أراد أن يُنبئ القارئ بنتيجة التهاون وقت الأزمات، حيث أن بين التشبث بالبيت (جبل يزعم الناس أنه سيقيهم غائلة الطوفان القادم) والخروج يُخبئ الرحيل المؤجل.
• القهوة بمذاقها المُر ولونها الداكن ورائحتها النفاذة تُداني شبهاً مزاج شاربها الذي يكون غالبا إما صاحب فكر متعمق أو مكتئبا. فذاك المذاق لا يترك لصاحبه الفرصة ليتذوق ما هو أحلى حتى لا يكدر صفو مزاجه بحلاوته. ويبدو للقارئ إفتتان السارد بفنجان القهوة وطقوسه فعبر عن ذلك بأسلوب رومانسي (أرقى أشكال الغزل ما يكون بين فنجان القهوة وصاحبه)، (أنفرد بنفسي وبين أصابعي فنجاني، أتحسس أذنه برفق، تمر أناملي بجسده الرخامي الملمس، فينتقل الدفء من جسد يحسبه قساة القلوب أنه مَوات، بينما يراه العاشق جسدا ينبض بحياة). أما عن الحياة فأحيانا يلجأ السارد لقراءة فنجانه أو لعرافة، فيقول (أمسك فنجاني الخالي من البن عدا شذرات تتشبث بجدرانه، فترسم صورة مبهمة لمستقبل أشد غموضا)، وترد العرافة (قدرك يا ولدي أن تصبح حياتك رحلة البحث بين أنصاف الحلول).
• رأي السارد في الحياة أبرزه بالاستشهاد بأسطورة “سيزيف” الإغريقية في قصتي “موجة صقيع” و”أيس كريم”، فـ”سيزيف” ذاك الملعون الجشع الماكر الذي أرغمه “زيوس” على دحرجة صخرة ضخمة لأعلى تل منحدر، وقبيل بلوغ قمته تفلت الصخرة دائما لبيدأ في الصعود من جديد، ويُرمز به إلى الأنشطة غير المكتملة أو اللا متناهية أو عديمة الهدف، وقد رأى “ألبير كامو” أن “سيزيف” يجسد هراء وسخف ولا منطقية ولا عقلانية الحياة الإنسانية.
• شاب المجموعة بعض المآخذ- من وجهة نظري المتواضعة تحتمل الخطأ أو الصواب- أهمس بها للكاتب، منها حديث بائعة الخضر “الفلسفي” الذي لا يلائم بساطة تفكيرها في قصة “صاحب بيت”. وكذلك في “تعاطف القوم” يقول (تلفه رائحته، وتحيط به نتانته كعقد دُريّ يطوق عنق غادة)، أرى أن بتلك الجملة مُخالفة تشبيهية، فلا يجوز تشبيه القبيح بالجميل، فصفات المسؤول الفاسد برائحته النتنة لا ولن تُقابل أو تُداني جمال الغادة الحسناء.

خاتمة


أرى أن لا حياة بلا أحلام، فالحلم مُتمِّم لمعنى الوجود والطموح، يسعى إليه الجميع غنيهم وفقيرهم، فحياة بلا حلم ما هي إلا ظلام يفتقد النور. لكن للكاتب رأي مختلف في قصة “مُتع الدنيا”، وقد قصر الحلم على مَنْ مَلك رفاهية العيش (لا يحلم الآن إلا من امتلك ناصية حياته)، (أولئك الذين لا يملكون رفاهة العيش، تنعدم بينهم فرص الحلم)، (الحلم يا صديقي امتداد للحياة، صورة معاكسة للواقع)، (عندما تدرك أنك تحلم، وأن ما حولك زيف، سوف تستيقظ على واقعك الحقيقي)، وفي آخر قصة بالمجموعة “حالة عشق” صرح بأن (أحلامي هي بعض مني، عورة لا ينبغي أن يراها إلا من اطمأن له قلبي)، واختتمها (ما زلت أحتفظ بجيبي ببقايا قلم رصاص، وحلم بَخلتُ بالإعلان عنه)، وكأنه يبوح للقارئ بحلم خبيء بصدره لم يئن أوان إعلانه، فهنيئا لمن ملك أحلامه سواء باح بها أم أخفاها.

التعليقات مغلقة.