فنجان قهوة (1)
بقلم المهندس : أسامه أنيس
كان موعدى فى التاسعة صباحاً حيث سأذهب للمرة الأولى إلى أستاذى فى منزله المطل على البحر ، كان شديد الدقة والتدقيق وكنت أعرف عنه هذا بحكم عملى معه … كنت فى غاية السعادة لأننى سأقضى معه يوماً كاملاً لمناقشة بعض الأعمال وسيتخللها بالطبع أوقات راحة وأوقات غذاء … وصلت قبل موعدى بدقيقتين أو ثلاثة وقادتنى الخادمة إلى مطبخ واسع جداً حيث وجدت أستاذى وقد أنهى أفطاره منذ لحظات … وعلى مقربة منه وقف “محمود” الذى أعرفه من قبل فهو خادمه وسائقه والذى لا يفارقه فى كل أنتقالاته وسفرياته
رحب بى الأستاذ وأجلسنى أمامه وسألنى أن كنت تناولت إفطاري فأجبته بأننى تناولته وجاهز للعمل ، وبالفعل كنت متحمساً للغاية فمناقشاته والعمل معه متعة حقيقية
الأستاذ : خذ نفسك وأشرب شىء معى … قهوة ؟
——– : لو سمحت (ألتفت لمحمود … قهوة للباشمهندس)
الأستاذ : قهوتك سكرها زيادة ؟
——– : لا .. مظبوط (ألتفت لمحمود … قهوة مظبوط يا محمود)
الأستاذ : مغلية ولا بوش ؟
——– : قهوة بوش (ألتفت لمحمود … قهوة بوش يا محمود)
الأستاذ : تفضل تشربها فى فنجان ولا فى ….. ؟ أشار بيده لكوب زجاجى أمامه
——– : فنجان (ألتفت لمحمود … فى فنجان يا محمود)
الأستاذ : بن عامق ولا فاتح ؟
——– : غامق لو ممكن (ألتفت لمحمود … بن غامق يا محمود)
بدأت أشعر يأن الأمر قد طال أكثر من اللازم وكل ما أريده فنجان قهوة !!
الأستاذ : محوج ولا لأ ؟
——– : محوج (ألتفت لمحمود … البن المحوج يا محمود)
الأستاذ : سكر أبيض ولا بنى ؟
——– : سكر بنى ؟! سكر أبيض العادى (ألتفت لمحمود … سكر أبيض يا محمود)
لم أكن أعرف وقتها السكر البنى
الأستاذ : كنكة نحاس ولا ألومنيوم ؟
——– : (مبتسماً) تفرق؟ … كنكة نحاس طبعا (ألتفت لمحمود … كنكة نحاس يا محمود)
أنفجرت فى الضحك من الموقف ومن رأس الأستاذ الحائرة والتى لم تتوقف عن الألتفات تارة ناحيتى وتارة ناحية “محمود” … وأحسست بالحرج من عدم قدرتى التوقف عن الضحك ولكنه لم يتوقف (لا الضحك ولا رأس الأستاذ)
الأستاذ : تحبها على السبرتاية ولا البوتاجاز ؟
——– : يا سلام … أكيد على السبرتاية (ألتفت لمحمود … على السبرتاية يا محمود)
الأستاذ : تفضل نوع بن محدد ؟ – لاحظ الأستغراب على وجهى فأكمل – بن برازيلى .. كولومبى .. عربى .. أندونيسى .. يمنى
ضحكت وسألته
——– : هو أنا سأشرب القهوة اليوم أم فى زيارة قادمة ؟!
الأستاذ : ستشربها فى المكتب
لاحظت أمراً غريباً هو أن “محمود” لم يتحرك ولم يتكلم طوال الوقت … كان ساكناً صامتاً لكنه لم يكن شارداً
أنتقلنا إلى المكتب وهو يستند على عكازه الخشبى الرائع . المكان على الطراز الأنجليزى الكلاسيكى بالغ الجمال ، والتى أكتشفت فيما بعد كثير من أسراره … تفوح منه عبق الذكريات التى أتشوق لسماعها …
ما هى إلا دقائق قليلة حتى جاء “محمود” وفى يده صينية فضية صغيرة عليها فنجان القهوة الأنيق فوق طبقه الصغير وكوب من الماء وفى اليد الأخرى الكنكة النحاس وقام بصب القهوة أمامى قبل أن ينصرف ومعه الكنكة
كان فوق الطبق الصفير بجوار الفنجان حبة واحدة من التمر خالية من البذرة وحبتان من البن المحمص الغير مطحون … بالطبع كان أول ما فعلته أن أكلت حبة التمر وأنا أتساءل
——– : ايه ده ؟ حلوة جداً
الأستاذ : بعض الناس بيفضلوا حاجه حلوة قبل القهوة المُرّة ، أما حبات البن لأن البعض بيحب البن به بعض الخشونة فيأخد حبة أو أثنتين من البن ويجرشها وهو يشرب القهوة … بعض التفاصيل لم أسألك عنها !!
كانت القهوة رائعة وتعجبت وأنا أسأل نفسى هل تذكر “محمود” كل التفاصيل … والأعجب أننى لم أُذكّر “محمود” بأى تفاصيل عن قهوتى فى كل زياراتى للأستاذ والتى أمتدت لسنوات بعدها
مرت سنوات بعد هذه الواقعة وذات مرة تذكرتها بينما “محمود” يصب لى قهوتى فضحكت وذكّرت بها الأستاذ ، فوجدته يرد ببساطة
الأستاذ : كنت أعلمك التدقيق فى أبسط الأشياء ، الدقة فى التفاصيل … فهمت ؟
التعليقات مغلقة.