فن الإخراج في النص القرآني..العقدة.. الموقف الفارق والحبكة (2 من 3)بقلم/ مجدي سالم..
فن الإخراج في النص القرآني..
العقدة.. الموقف الفارق والحبكة (2 من 3)
بقلم/ مجدي سالم..
نستكمل مع حضراتكم ما بدأناه بالأمس..
خامسا.. وقد ترد قصة حياة كاملة و”الموقف لفارق” فيها في بضع كلمات.. مثلما كان الحال مع إدريس عليه الصلاة والسلام.. تقص سورة مريم “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا.. وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا” ولا تزيد سورة الأنبياء عن وصفه ” وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ .. كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ”.. فقد رفعه الله في لحظة حسم مثلما رفع عيسى.. وترك لفطنة القاريء ما تعرض له من معاناة وما كان من صبره عليها حتى رفعه الله.. إنه منتهى الإقتضاب والإعجاز.
سادسا.. وقد يتكرر وصف “الموقف الفارق” أواللحظة المعجزة بأكثر من أسلوب وأكثر من تفصيل.. في أكثر من موضع.. فلا يستطيع المتلقي أن بفاضل بين أي منها.. مثلما حدث مع قصة آدم عليه الصلاة والسلام.. التي ذكرت في خمس وعشرين موضعا جاءت بثلاث مواقف فارقة.. فالملائكة يتعجبون من سلوك محتمل لأدم على الأرض.. والله يعلمهم كيف أهله سبحانه وتعالى وسلحه بالعلم حتى يمكنه وذريته من خوض غمار الحياة عليها.. ثم يأمرهم بتحية آدم بالسجود له فبستجيبوا إلا إبليس يأبى كفرا.. وبوسوس لآدم ممنيا له بالخلود.. فيضعف آدم وحواء أمام الأمل الكاذب فيأكلا من الشجرة.. فيأمر رب العالمين أن يهبط آدم وحواء إلى الأرض.. وتوعد العصاة من ذريته بنار جهنم.. ووعد المتقين بدخول الجنة.. واقرأ:
1) من سورة البقرة..” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33).. ثم الموقف الثاني..
2) “وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)”..
3) والثالث من سورة طه..” قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ”..
سابعا.. ولقد استمرت قصة نوح عليه الصلاة والسلام قرابة الأف عام.. وذكر القرآن قصته في خمسين موضعا.. وكانت الذروة في ثلاثة مواقف ختامية فارقة.. فقد أعقب كفر قوم نوح بقمة أولى تمثلت في بناء السفينة الغواصة.. ثم تنهيها آيات القرآن بمعجزة درامية هي الطوفان..
1) من سورة يونس..” وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ”.. إنها المواجهة الأولى في التاريخ بين الإيمان والشرك..
2) وتقول سورة غافر..”َذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ ۖ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ۖ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ”..وتؤكد الفرقان..” وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ۖ وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا”..
3) وتلخص سورة هود الألف عام.. في حدثين..” وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ”.. لكن الإبن غرق..” وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ.. قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ”.. وتاب نوح إلى ربه واستغفره.. فغفر له.. في قمة درامية أخرى أعقبت ذروة الطوفان المعجز..
أراكم في حلقة قادمة إن شاء الله..
التعليقات مغلقة.