فوائد الصلح بين الناس… محمد الدكرورى
فوائد الصلح بين الناس
قلم / محمــــد الدكــــرورى
إن إصلاح ذات البين هو التأليف بين المتنافرين والتوفيق بين المختلفين، وحقْن دماء المقتتلين، به تُسَل السخيمة في القلوب، وبه تزال الخطوب والكروب، وبه تحيا النفوس بعد العطَب، وتصان الحُرمات ونِعم المطلب، وبه تحفظ الحقوق والثروات .
وبه يجمع الشمل بعد الشَّتات، وبه تؤصل المؤدة، وتُستدام الصلة بعد القطيعة، ويَسهُل سبيل التعاون على التقوى والبر، ويتحقق التواصي بالحق والصبر، والدعوة إلى الخير، فما أعظم شأنه ، وما أعلى مكانه ، وما أحسن عاقبته ، وما أكرم عائدته .
وروى أبو هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: ” تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر الله لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئا إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا” ويدل هذا الحديث على أن الذنوب إذا كانت بين العباد فسامح بعضهم بعضاً سقطت المطالبة بها من قبل الله عز وجل .
والإصلاح بين الناس عبادة عظيمة ، يحبها الله سبحانه وتعالى ، وما أحوج الأمة اليوم إلى هذه الخصلة الحميدة، وإلى هذا الخلق العظيم، في زمن كثرت فيه الصراعات والنزاعات، والهجر والقطيعة، فلم يسلم منها الأقارب ولا الجيران ، ولا الأصدقاء، والشركاء .
فمِن أخلاق الإسلام، وصنائع المعروف ، الصلحُ بين الناس إذا تقاطعوا، والصلح بين الناس إذا تهاجروا، وقطع أسباب الضغائن والشحناء، وقطع أسباب الفتن والبغضاء، فإنها من أعظم الأمور المقربة إلى الله عز وجل .
إن التنازع مفسد للبيوت والأسر، مهلك للشعوب والأمم، سافك للدماء، مبدد للثروات ، وبالخصومات والمشاحنات تنتهك حرمات الدين، ويعم الشر القريب والبعيد ، ومن أجل ذلك سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فساد ذات البين بالحالقة .
فهي لا تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين ، فكم من بيت كاد أن يتهدّم ، بسبب خلاف سهل بين الزوج وزوجه ، وكاد الطلاق أن يفرق بينهم ، فإذا بهذا المصلح بكلمة طيبة ، ونصيحة غالية ، ومال مبذول ، يعيد المياه إلى مجاريها ، ويصلح بينهما .
وكم من قطيعة كادت أن تكون بين أخوين ، أو صديقين ، أو قريبين ، بسبب زلة أو هفوة ، وإذا بهذا المصلح يرقّع خرق الفتنة ويصلح بينهما ، وكم عصم الله بالمصلحين من دماء وأموال ، وفتن شيطانية ، كادت أن تشتعل لولا فضل الله ثم جهد المصلحين .
وإن الأمة تحتاج إلى إصلاح يدخل الرضا على المتخاصمين، ويعيد الوئام إلى المتنازعين ، إصلاح تسكن به النفوس، وتأتلف به القلوب ، وإصلاح يقوم به عصبة خيرون شرفت أقدارهم، وكرمت أخلاقهم، وطابت منابتهم، وإنهم بمثل هذه المساعي الخيرة يبرهنون على نبل الطباع وكرم السجايا .
وفئات من ذوي الشهامة من الرجال والمقامات العلية من القوم، رجال مصلحون ذو خبرة وعقل وإيمان وصبر، يخبرون الناس في أحوالهم ومعاملاتهم، حذاق في معالجة أدوائهم، أهل إحاطة بنفوس المتخاصمين وخواطر المتباغضين والسعي بما يرضي الطرفين.
ومن أجل ذلك ، فقد عظم ثوابه، وكبر أجره، فهو أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدِّين” ولقد باشر الصلح بنفسه ،عليه الصلاة والسلام ، حين تنازع أهل قباء، فندب أصحابه وقال: “اذهبوا بنا نصلح بينهم”.
وإن من فقه الإصلاح النية، وابتغاء مرضاة الله، وتجنب الأهواء الشخصية ، والمنافع الدنيوية ، إذا تحقق الإخلاص حل التوفيق وجرى التوافق وأنزل الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ، ومن فقه الإصلاح سلوك مسلك السر والنجوى. فلئن كان كثير من النجوى مذموماً فإن ما كان من صدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فهو محمود مستثنى .
وإن من الناس من يأبى أن يسعى في الصلح فلان أو فلانة، وآخر يصر على أن تكون المبادرة من خصمه ، وتمشياً مع هذه المسالك السرية والتحركات المحبوكة أذن الشارع للمصلح بنوع من الكذب في العبارات والوعود ، فهذا هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ” فليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيراً، أو يقول خيرا ” .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا يصلح الكذب إلا في ثلاث؛ رجل يصلح بين اثنين، والحرب خدعة، والرجل يصلح امرأته” وميدان الصلح واسع عريض ، في الأفراد والجماعات والأزواج والزوجات، والكفار والمسلمين، والفئات الباغية والعادلة، في الأموال والدماء، والنزاع والخصومات.
وسمع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما ، إذا أحدهم يستوضع الآخر ويسترفقه ، أي يطلب منه أن يخفف عنه دينه ، وهو يقول: والله لا أفعل ، فخرج عليهما رسول الله ، صلى الله عليه وسلم .
وهو يقول: ” أين المتألي على الله ألا يفعل المعروف؟” فقال: أنا يا رسول الله ، فقال له: “أي ذلك أحب؟” فعدل الرجل عن يمينه، واستجاب لتذكير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، طاعة لله ورسوله، واستجابة لداعي الحق.
فالإنسان هو البنيان المرصوص والجسد الواحد ذو الأعضاء المتعاطفة تصوير لحال المجتمع المسلم الذي أراده الله وشرعه ، ومن شأن ذلك البنيان والجسد حصول التصدع، والنفرة بين بعض أعضائه، وحصول التقاطع في أحايين قد تقلُّ أو تكثر حسب ابتعادهم عن منهج الألفة والرحمة مما شرعه الله عز وجل ، واتباعهم لأهواء النفوس، وضعفها، ونزغات الشيطان وحزبه .
وبعد ذلك تبقى مهمة ترميم البناء ورأب صدعه وإصلاح ذات البين وتأليف أعضاء الجسد المتشاكسين هي الواجبَ المحتم ، والوسيلةَ التي ترتقي بالمجتمع للغاية المرادةِ شرعاً، والوظيفةَ الساميةَ التي لا يُكرَمُ بها إلا الأخيار .
التعليقات مغلقة.