في الوظيفة السوسيولوجية للاحتفال بتعاقب السنين فيما يشبه بطاقة التهنئة بالعام الهجري الجديد
في الوظيفة السوسيولوجية للاحتفال بتعاقب السنين
فيما يشبه بطاقة التهنئة بالعام الهجري الجديد
بقلم د. قاسم المحبشي
ادخلي ياخضراء واخرجي يا غبراء
ارحبي يا بشرى و أذهبي يا جرباء
اشرقي يا نجلاء وأغربي يا دبراء
مرحبا بالكحلى بعد تاك العمياء
يا هلا بكِ سهلا والجديدة أحلى
تعد الاحتفالات السنوية من الظواهر الاجتماعية التي رافقت حياة الإنسان منذ ماقبل التاريخ، بوصفها انزياحا سوسيولوجيا وسيكولوجيا عن السياق الاجتماعي الروتيني للحياة اليومية للشعوب. إنزياح يتم التعبير عنه بتنويعات شتى من الأفعال والتفاعلات والعلاقات والممارسات والقيم والرموز عند مختلف الشعوب، فكل جماعة أو مجتمع أو شعب من شعوب الأرض يمارس الاحتفال بوصفه تأكيدا للوجود والحضور وتعبيرا عن الفرح والسعادة بالحياة وإنجازاتها وتجديدا للطاقة وتحفيزا الأمل بالمستقبل. ففي الأزمنة القديمة ما قبل التاريخ كان الناس يحتفلون بأنفسهم وباعيادهم في سياق زمني أسطوري شديد الالتصاق بالطبيعة وتقلباتها ومواسمها، وكانت أعظم الأحتفالات عند الشعوب القديمة هي احتفالات بالمطر والزرع والثمر وبحصاد الثمار نهاية كل عام وتوقعاتهم بما سوف تجود به السماء والأرض في قادم الأيام. غير أن الأمر المختلف في هذه الظاهرة المستمرة عند جميع البشر هو مدى وعيهم بالزمان بوصفه تاريخاً، والتاريخ هو انقطاع عن الطبيعة يحدث استيقاظا للوعي. مع تبلور الوعي التاريخ بسيرورة الحياة بالزمان ، بأبعاده الثالث، الماضي والحاضر والمستقبل، إي الذاكرة والوعي والخيال، بدأ التفكير بتوقيت الزمن وتحديده وتقسيمه الى لحظات وساعات وأيام وأعوام وعقود وقرون. بصيغ مختلف عند الشعوب والأقوام والحضارات، إذ يختلف التقويم عند الصينيين عن التقويم الإسلامي والتقويم اللاتيني . ولكنه يتشابه في وظائفه الاجتماعية الأساسية، فوظائف الاحتفال هي ذاتها عند بني الانسان إذ تشبع لديهم حاجات حيوية، لكسر الروتيني وتغيير النمط وسعادة الإنجاز وتوقع المستقبل، والقياس والتقويم المقارن بين ما قبل وما بعد؟ ماذا تحقق في العام الذي مضى وماذا يمكننا تحقيقه في العام الجديد؟ ومن السخف النظر الى احتفالات الشعوب المسيحية بوصفها مجرد احتفادا دينيا وشجرة ميلاد وكريسمس وشرب الخمر أو غير ذلك من الرموز التي ترافق الاحتفالات بتبدل السنين الميلادية. إذ أن كل تلك الرموز والعناصر هي جزء من الباراديم الكلي للاحتفال الذي يعني أكثر منها بالتأكيد. وكلما كانت حياة الأفراد والشعوب منظمة ومستقرة وأمنة في قواعدها المؤسسية الراسخة كلما كان للاحتفال بعيد رأس السنة قيمة واهمية واعتبار، إذ يمكن لمواطني تلك الدول المسيطرين على ممكنات تاريخهم وشروط حياتهم أن يحتفلوا بما مضى من أيامهم وما حققوه من إنجازات في إطار العام الذي مضى بسعادة وفرح مصحوب بالأمل والتطلع الى عام جديد أجمل وأفضل. أما من يفتقدون قدر السيطرة على شروط حياتهم اليومية في بلدانهم ويعيشون حياتهم في مهب العاصفة وبلا مزايا كما هو حالنا في البلاد العربية المسممة بالحروب والفساد والخوف والخراب، بما يعجزنا عن توقع ما تخبئوه الليالي والأيام القريبة القادمة، فليس للاحتفال بتعاقب الأعوام بالنسبة لنا معنى واعتبار، فنحن نعيش في زمن دائري، يكرر باستمرار ما قد جرى وكان منذ قديم الازمان بمختلف الأنماط والصيغ والاشكال ودون أن نعي أن الزمان تاريخ وأن التاريخ يسير من الماضي الى الحاضر الى المستقبل، فمن العبث الحديث عن الاحتفال برأس السنة الهجرية أو الميلادية، فالأمر سيان! وطالما وقد عجزنا عن القبض على ممكنات التاريخ والسير في ركابه مثل سائر الأمم والشعوب والأقوام، فليس بمقدرونا منع غيرنا من التعبير عن أفراحهم كما يشتهون! ويجب أن نسأل أنفسنا السؤال البسيط ؟ ماهو الزمن، وكيف نعيه بوصفه تاريخا لمن يصنعونه؟ والأمر المهم هنا ليس هو ماذا يقول الناس ويفعلون هنا والآن، لماذا يقولون ما يقولونه ويفعلون ما يفعلونه. ومن ينجب يسمي ومن ينتج يجني ومن يبني يسكن ومن ينجز يحق له أن يسعد كما يحلو له! أما العاجز فليس لديه خيارات غير الحسرة والندم على الزمن الذي ضاع دون أن يعلم كيف ضاع ولماذا؟ ونحن كائنات تاريخية نعيش التاريخ كما تعيش الأسماك بالماء! والتاريخ هو ما يصنعه البشر بأنفسهم ولا شيء يأتي اليه ولا شيء يخرج منه، ولكنه يكسر رؤوس البشر ولا يتكسر رأسه ابدا!
في العصور الفطرية القديمة كان أسلافنا من بني الإنسان يتدبرون حياته في سياقهم الطبيعي على نحو اكثر استقرارا مما نعيش نحن اليوم . إذ فقدنا الطبيعة الحانية ولم نتمكن من ترويض التاريخ التاريخ المتوحش! وتحضرني الذاكرة الآن ونحن نودع عام هجري مضى ونستقبل عام هجري أتى بأننا حينما كنا أطفالا كان للاحتفال بقدوم العالم الهجري الجديد معاني ودلالات معبرة وجميلة. إذ يستعد الناس للاحتفال بلحظ الذرة بطرق واشكال عديدة وويعبروا عن فرحتهم بالسنة الجديدة بصور ورموز شديدة الاتصال بحياتهم الطبيعة وعلاقتهم بربهم. فعلى سبيل المثال كان مزارعوا البن في كل أسرة يكلفون سيدة الأسرة بوضع سبع حبيبات من ثمار البن الناضجة المختارة بعناية لتضعها في وعاء الطبيخ وتطبخها مع العصيدة وجبة العشاء. وكان جميع أفراد الأسرة ينتظرون تلك الوجبة بلهفة وفرح لاسيما الأطفال منهم ذكورا وإناثا. حيث يحتلقون حول قدح العصيدة وهم يتمتموا بدعاوى لله سبحانه وتعالى بان يرزقهم الحصول على العدد الوفير من حبيبات البن المخفية في العصيدة بوصفها تعبيرا رمزيا بالبشارة والحظ السعيد والرزق الحلال القادم ومن حالفه الحظ في العثور على أكبر عدد من حبات البن يوصف بالبرك أو المبارك وتغمره مشاعر سعيدة. وعلى العكس يكون حال من لم يحالفه الحظ في الحصول على حبة بن واحدة!
والأمر كله خاضع للصدفة واللحظ. سنة تحصل وسنة ولا حبة وبعض سنين يحافلك الحظ باكثر من حبه! وكان الاجداد والأباء يشجعون الاولاد على جلب أغصان شجرة البن الخضراء
ووضعها في نوافذ المنازل وأسطحها
وهم يرددون الاغنية التالية:
أدخلي ياخضراء واخرجي يا غبراء
ارحبي يا بشرى و أذهبي يا جرباء
اشرقي يا نجلاء وأغربي يا دبراء
مرحبا بالكحلى بعد تاك العمياء
يا هلا بكِ سهلا والجديدة أحلى
ربنا ارزقنا رزق دائم يبقى
وسنة جديدة أفضل وكل عام وأنتم بخير وسلام!
التعليقات مغلقة.