في تذكار سيد الكلمات والمعاني محمود درويش بقلم الدكتور قاسم المحبشي
في تذكار سيد الكلمات والمعاني محمود درويش بقلم الدكتور قاسم المحبشي
من أي الأبواب ينفتح الحضور عن الغياب؟! من أي النوافذ يمكن لنا أن نطل على ذكر رحيل شاعر فلسطين العظيم محمود درويش الذي جعل من جسده النحيل شعلة دائمة التوهج والإشعاع في حلكة الظلام العربي الوبيل؟ ثمة ملمح أسطوري في حضرة غياب الشاعر المضيء محمود درويش الذي أسر القلوب والأذهان بسيل دافق من النور والجمال العصي عن النسيان والأهمام في ليل التاريخ والزمان. فإذا كان المرء يموت حينما يكف الناس عند تذكره! فها هو نورس فلسطين الجميل يحلق بعد تسع سنوات من الرحيل في كل الفضاءات المتسامية.حينما ولد الطفل الفلسطيني محمود درويش في 13 مارس 1941 في قرية البروة بالجليل قرب ساحل عكا، لم يكن يعلم ما كان يخبئه له القدر، ولم يكن يعلم بميلاده أحد غير والديه وذويه ولكنها ابى أن تمر حياته في هذه الأرض مرور الكرام وأن يموت كما ولد في عالم النسيان ، بل جعل من فرصة وجوده رمزا أدبيا وثقافياً خالدا!
رحل سيد الكلمات والمعنى في مثل هذا اليوم 8اغسطس 2008م في الولايات المتحدة الأمريكية. الف رحمة ونور تَغْشَاه. فماذا يمكننا تذكره من حياة شاعر فلسطين الذي اضاء الكون كله؟ عرفته منذ طفولتي وأعشقت قصائده منذ كنت طالباً في الثانوية العامة إذ لازلت اتذكر قصيدته الحزينه ( القتيل رقم ١٨) عن مذبحة دير ياسين، التي تحكي عن عريس يخاطب حبيبته ويعتذر منها عن التأخير جاء فيها:
لا تلمني إن تأخرت قليلا
إنهم قد أوقفوني
غابة الزيتون كانت دائما خضراء
كانت يا حبيبي
إن خمسين ضحيّة
جعلتها في الغروب ..
بركة حمراء.. خمسين ضحيّة
يا حبيبي.. لا تلمني..
قتلوني.. قتلوني..
قتلوني.
ولم أنسى ما حييت الأثر التي تركته في نفسي هذه القصيدة وجعلتني من حينها شديد التعلق بدرويش وشعره. وحرصت على حفظ دواوين كلها حبيبتي تنهضُ من نومِها عام 1970م. محاولة رقم 7 عام 1973م. مديح الظلّ العالي عام 1983م. حصار لمدائح البحر عام 1984م. هي أغنية .. هي أغنية عام 1986م. لماذا تركتَ الحصانَ وحيدًا عام 1995م. حالة حصار في عام 2002م. الجداريّة عام 2000م. لا تعتذر عما فعلت عام 2004م. لا أريدُ لهذه القصيدةِ أن تنتهي، نُشر عامَ 2009م، وكان ديوانَه الأخير. وحفظت بعد قصائده
منذ سجل أنا عربي
سجل انا عربي
ورقم بطاقتي خمسون الف
واطفالي ثمانية
وتاسعهم سيأتي بعد صيف
فهل تغضب
سجل.. انا عربي…
واعمل مع رفاق الكدح في محجر
واطفالي ثمانية
اسلّ لهم رغيف الخبز والاثواب والدفتر
من الصخر
ولا اتوسل الصدقات من بابك
ولا اصغر امام بلاط اعتابك
فهل تغضب
سجل.. انا عربي…
انا اسم بلا لقب
صبور في بلاد كل ما فيها
يعيش بفورة الغضب
جذوري
قبل ميلاد الزمان رست
وقبل تفتح الحقب
ابي من اسرة المحراث لا من سادة نجب
وجدي كان فلاحا بلا حسب ولا نسب
يعلمني شموخ النفس قبل قراءة الكتب
انا عربي
سجل.. انا عربي…
مرورا بمديح الظل العالي وقصيدة بيروت
ولماذا تركت الحصان وحيدا؟
والآن في المنفى
الآن، في المنفى … نعم في البيتِ،
في الستّينَ من عُمْرٍ سريعٍ
يُوقدون الشَّمعَ لك
فافرح، بأقصى ما استطعتَ من الهدوء،
لأنَّ موتاً طائشاً ضلَّ الطريق إليك
من فرط الزحام…. وأجّلك
قمرٌ فضوليٌّ على الأطلال،
يضحك كالغبي
فلا تصدِّق أنه يدنو لكي يستقبلك
هُوَ في وظيفته القديمة، مثل آذارَ
الجديدِ … أعادَ للأشجار أسماءَ الحنينِ
وأهمَلكْ
فلتحتفلْ مع أصدقائكَ بانكسار الكأس.
في الستين لن تجِدَ الغَدَ الباقي
لتحملَهُ على كتِفِ النشيد … ويحملكْ
قُلْ للحياةِ، كما يليقُ بشاعرٍ متمرِّس:
سيري ببطء كالإناث الواثقات بسحرهنَّ
وكيدهنَّ. لكلِّ واحدةْ نداءُ ما خفيٌّ:
هَيْتَ لَكْ / ما أجملَكْ
سيري ببطءٍ، يا حياةُ ، لكي أراك
بِكامل النُقصان حولي. كم نسيتُكِ في
خضمِّكِ باحثاً عنِّي وعنكِ. وكُلَّما أدركتُ
سرَاً منك قُلتِ بقسوةٍ: ما أّجهلَكْ
قُلْ للغياب: نَقَصتني
وأنا حضرتُ … لأُكملَكْ
وما بينهما وما بعدهما حتى انكيدو ترفق بي
في جدارية الذي أنشد فيها
قمَّةُ
الإنسان
هاويةٌ …
ظلمتُكَ حينما قاومتُ فيكَ الوَحْشَ ،
بامرأةٍ سَقَتْكَ حليبَها ، فأنِسْتَ …
واستسلمتَ للبشريِّ . أَنكيدو ، ترفَّقْ
بي وعُدْ من حيث مُتَّ ، لعلَّنا
نجدُ الجوابَ ، فمن أَنا وحدي ؟
حياةُ الفرد ناقصةٌ ، وينقُصُني
السؤالُ ، فمن سأسألُ عن عبور
النهر ؟ فانهَضْ يا شقيقَ الملح
واحملني . وأَنتَ تنامُ هل تدري
بأنك نائمٌ ؟ فانهض .. كفى نوما ً!
تحرَّكْ قبل أَن يتكاثَرَ الحكماءُ حولي
كالثعالب : [ كُلُّ شيء باطلٌ ، فاغنَمْ
حياتَكَ مثلما هِيَ برهةً حُبْلَى بسائلها ،
دَمِ العُشْب المُقَطَّرِ . عِشْ ليومك لا
لحلمك . كلُّ شيء زائلٌ . فاحذَرْ
غداً وعشِ الحياةَ الآن في امرأةٍ
تحبُّكَ . عِشْ لجسمِكَ لا لِوَهْمِكَ .
..
وانتظرْ
ولداً سيحمل عنك رُوحَكَ
فالخلودُ هُوَ التَّنَاسُلُ في الوجود .
وكُلُّ شيءٍ باطلٌ أو زائل ، أو
زائل أو باطلٌ
فلم أجد في حياتي كلها شاعرا يرافقني كظلي في حلي وترحالي ويمدني بما احتاج اليه من حلم وأمل حينما تضيق دروبي إلى حد أنني لا استطاع أن اتصور كيف استطيع العيش بدون درويش؟ ومن شدة تعليق بدرويش يا ما حاولت النسج على منواله حينما يستبد بي الضيق والفرح. وسانحة هل تناسى الفجر موعده ؟ ا
من آخر الأحزان
يأتي الموت
في ليل الفجيعة
صامتا متسللا
لا خوف يحمله
ولا وجع الممات
يأتي ويمضي
خلسة فينا
وفي أحبابنا
والكائنات
من خارج المعنى
ومن كل الجهات
لا دمع يُذرف في
العيون الشاردات
لا حزن في الأعماق
يتأسى على الأحياء
والأموات في
مدن الشتات
الآن والأسماء
تشبه بعضها
والنَّاس ترقب صمتها
صمت القلوب الواجفات
في هذا الساعات
من خوف المدينة
وحدي أجر الخطو
صوب البحر والأمواج
اسألها بصوت هامس
ماذا جرى للحوريات؟
دقيقة مرت وآخر
بانتظار الرد
ومرت الساعات
لكن لا أحد
موحش هذا السٌبات
وفِي سماء البحر
المحٌ ومض أنجم خافتات
هل ضاقت الكلمات بالمعنى
أم إن المعاني خائفات
لا شي في ليل العروبة
غير أصوات البنادق
والقنابل ساهرات
لا نوم يأتي في عيون الخوف
منذ الفجر أرعبها وبات؟!
وهكذا هو الشاعر محمود درويش بعد ١٢ عام من الغياب ينبعث حاضرا في فضاء الفعل الإبداع بكل مكان تقريباً من عالمنا المعاصر.إذ من المؤكد أن الفتى درويش كان قد أفزعه أن تنتهي حياته كما بدأت في أي مكان وكيفما اتفق ، فغير بعبقريته كل شيء ، إذ أدرك أن ضربات السيف تذهب أما ضربات القلم فهي آثار خالدة، فصب رحيق حياته في حروف من النور واستبدل ضجيجها كلمات لا تمحى، وأحل محل جسده الفاني أسلوباً يدل عليه وصوتاً يحمل اسمه، ومنح ذاته جسماً غير قابل للبلى والاهتراء ، إذ إنه كتب ليس لمجرد الرغبة في الكتابة ، وإنما لينحت من المشاعر والأحاسيس والأفكار والكلمات جسم المجد الرفيع هذا. في ٩ اغسطس ٢٠٠٨م تتوهج روح محمود درويش وتخرج منها عشرين فراشة هي دواوين قصائده التي ستخفق بأجنحتها الباذخة الجمال وتحلق في فضاءات الأدباء والثقافة العالمية الإنسانية، وتطير وتهبط فوق رفوف المكتبات وفِي اروقة الجامعات والمدارس والمعاهد والمنازل والمعارض والمدونات وتلك الفراشات الورقية الطائرة هي محمود درويش الرمز الإبداعي الخالد الذي أبى أن يموت فأضحى آلاف الصفحات وملايين الحروف والأفكار المجنحة، إنه يولد من جديد ويصبح أخيراً إنساناً كاملاً متكلما مغنياً مزمجراًيؤكد حضوره الفاعل ضد جمود المادة القاسي، ومكر الزمن القاهر! وهو القائل : على هذه الأرض ما يستحق الحياة. ويحق لدرويش أن يفتخر بذاته اليوم في حضرة الغياب بلسان حال يقول: ها أنا معكم وفيكم وبينكم وليس ثمة من يستطيع نسياني ولا من يغرقني بالصمت، فأنا رمز كبير والرموز خالدة لا تموت، فإذا كان ضميري غائباً فقد تكفلت بي ضمائر أخرى، فأنا في جميع الأفواه لغة عالمية، وأنا في ملايين القلوب والأذهان انتصب فضولاً قابلاً للاتساع، أنا لست موجوداً بعد في أي مكان، أني موجود أخيرا في كل مكان!
لروح درويش الطمأنينة والسلام.
ويا هذا الليل الطويل
عجل قليلا
عجل لا عرف جيدا
من بات قاتلا أم قتيلا
عجل لأعرف جيدا
اين الأدلة والدليل
بالأمس ضيعت
الأدلة واليوم
ضيعت الدليل
تعب الرحيل
من الرحيل
إليك يا وطني الضليل
التعليقات مغلقة.