في جهاد الصحابة..على هامش الحلقة الثامنة والستون.. مع معاناة الصحابة في المرحلة المكية (1)….
بقلم مجدي سالم
مقدمة..
كم تعرض كثير من الصحابة الكرام للتعذيب.. حتى وصل الأمر إلى حد القتل.. وهكذا نرى أولئك الرهط من الشباب القرشي.. قد أقبلوا على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم واستجابوا لها والتفوا حول صاحبها.. على الرغم من مواقف آبائهم وذويهم وأقربائهم المتشددة تجاههم.. فضحوا بكل ما كانوا يتمتعون به من امتيازات قبل دخولهم في الإسلام.. وتعرضوا للفتنة رغبة فيما عند الله تعالى من الأجر والثواب.. وتحملوا أذى كثيرًا.. وهذا فعل الإيمان في النفوس.. عندما يخالطها فتستهين بكل ما يصيبها من عنت وحرمان.. إذا كان ذلك يؤدي إلى الفوز برضا الله تعالى وجنته.
هذا.. ولم يكن التعذيب والأذى مقصورًا على رجال المسلمين دون نسائهم.. وإنما طال النساء كما تقدم أيضا قسط كبير من الأذى والعنت بسبب إسلامهن كسمية بنت خياط وفاطمة بنت الخطاب ولبيبة جارية بني المؤمل.. وزنيرة الرومية.. والنهدية وابنتها.. وأم عبيس.. وحمامة أم بلال وغيرهن..
في حكمة الكفّ عن القتال في مكة واهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالبناء الداخلي.. كان المسلمون يرغبون في الدفاع عن أنفسهم.. ويبدو أن الموقف السلمي أغاظ بعضهم وخاصة الشباب منهم.. وقد أتى عبد الرحمن بن عوف وأصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا.. يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون.. فلما آمنا صرنا أذلة قال.. “إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم”.. وتعرض بعض الباحثين للحكمة الربانية في عدم فرضية القتال في مكة ومن هؤلاء من قال.. (لا نجزم بما نتوصل إليه لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة.. ونفرض أسبابًا قد لا تكون هي الأسباب الحقيقية.. ذلك أن شأن المؤمن أمام أي تكليف.. أو أي حكم من أحكام الشريعة.. هو التسليم المطلق.. لأن الله سبحانه هو العليم الخبير.. وإنما نقول هذه الحكمة والأسباب من باب الاجتهاد.. وعلى أنه مجرد احتمال.. لأنه لا يعلم الحقيقة إلا الله.. ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح)..
ومن هذه الأسباب والحكم والعلل بإيجاز..
أولا- أن الكف عن القتال في مكة.. ربما لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد في بيئة معينة.. لقوم معينين.. وسط ظروف معينة.. ومن أهداف التربية في مثل هذه البيئة.. تربية الفرد العربي على الصبر.. على ما لا يصبر عليه عادة.. من الضيم حين يقع عليه أو على من يلوذون به.. ليخلص من شخصه ويتجرد من ذاته.. فلا يندفع لأول مؤثر.. ولا يهتاج لأول مهيج.. ومن ثم يتم الاعتدال في طبيعته وحركته.. ثم تربيته على أن يتبع نظام المجتمع الجديد بأوامر القيادة الجديدة.. حيث لا يتصرف إلا وفق ما تأمره -مهما يكن مخالفًا لمألوفه وعادته- وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي المسلم لإنشاء (المجتمع المسلم)..
ثانيا- وربما كان ذلك أيضا.. لأن الدعوة السلمية.. أشد أثرًا وأنفذ في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف.. والتي قد يدفعها القتال معها -في مثل هذه الفترة- إلى زيادة العناد.. ونشأة ثارات دموية جديدة.. كثارات العرب المعروفة أمثال داحس والغبراء وحرب البسوس.. وحينئذ يتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات.. تنسى معها فكرته الأساسية.
ثالثا- وربما كان ذلك أيضًا اجتنابًا لإنشاء معركة ومقتلة داخل كل بيت.. فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة هي التي تعذب المؤمنين.. وإنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد.. ومعنى الإذن بالقتال.. في مثل هذه البيئة.. أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت ثم يقال.. هذا هو الإسلام.. ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال.. فقد كانت دعاية قريش في المواسم.. إن محمدًا يفرق بين الوالد وولده.. فوق تفريقه لقومه وعشيرته.. فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد.. والمولى بقتل الولي؟
رابعا- وربما كان ذلك أيضًا.. لما يعلمه الله.. من أن كثيرًا من المعاندين الذين يفتنون المسلمين عن دينهم ويعذبونهم.. هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص.. بل من قادته.. ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟
خامسا- وربما كان ذلك أيضًا.. لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى.. ولا يتراجع.. وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس فيهم.. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة في هذه البيئة.. فابن الدُّغُنَّة.. لم يرض أن يترك أبا بكر وهو رجل كريم يهاجر ويخرج من مكة.. ورأى في ذلك عارًا على العرب.. وعرض عليه جواره وحمايته.. وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب.. ألقاكم غدا إن شاء الله..
التعليقات مغلقة.