في جهاد الصحابة.. الحلقة الرابعة بعد المائة.. فضل صلح الحديبية (5)
في جهاد الصحابة..
الحلقة الرابعة بعد المائة.. فضل صلح الحديبية (5)
بقلم/ مجدي سـالم
ثالث عشر.. في الوفاء بالعهد واستقراء الغد..
- (لاحظ مساحة الحرية التي منحها الإسلام للصحابة).. فنرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حكَّم العقل في العديد من المواقف.. فقال في أمر من أتى إليه مسلما: لا نستطيع بأي حال من الأحوال أن ننقض المصالحة الآن.. وذكر قاعدة مهمة من قواعد المسلمين وهي الوفاء بالعهد.. حتى وإن كانت هناك تداعيات سلبية بعد ذلك.. لأن المسلمين عند عهودهم.
- وفي الوقت نفسه أعطى طريقًا للنجاة لأبي جندل.. فقال له: “اصبر واحتسب”.. ثم بشره صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى سيخرجه من هذه الأزمة: “فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا”..
- ثم إنه صلى الله عليه وسلم ذكر له أن في داخل مكة بعض المستضعفين.. يعني إشارة إلى أنك إذا وحّدت جهدك مع أولئك المستضعفين سيكون ذلك هو السبب في الخروج من الأزمة.. فمن الممكن أن يهاجروا إلى أيِّ مكان آخر غير المدينة المنورة.. حتى لا يوقعوا المسلمين في حرج بعد هذه المعاهدة.. ومن الممكن أن يكتموا إسلامهم.. ومن الممكن أن يفعلوا أشياء كثيرة إلى أن يجعل الله سبحانه وتعالى لهم فرجًا ومخرجًا. وهذا وعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهذا الوعد سوف يتحقق إذا كان أبو جندل صادق الإيمان..
- والرسول صلى الله عليه وسلم يقول ويخاطب الصحابة رضوان الله عليهم عن ردِّ أبي جندل.. ورد أمثال أبي جندل “إ ِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ”.. أي: من يترك الإسلام ويرتد ويعود إلى المشركين.. فهذا لا نريده.. “وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا”.. يعني الذي جاءنا منهم ورددناه بعد ذلك إلى مكة.. لا شك أن الله سبحانه وتعالى سوف يخرجه من هذه الأزمة..
- وليس من الممكن أن يسعى هو إلى الله سبحانه وتعالى ثم يوقعه سبحانه وتعالى في أزمة أو في ضائقة..
- فهذا الأمر كان واضحًا جدًّا مع الرسول صلى الله عليه وسلم.. وكان واضحًا جدًّا في ردِّه أبا جندل.. إنه يعلم أنه في يوم من الأيام سيعود ثانية.. لكن الصحابة رضي الله عنهم لم يروا هذه الأبعاد.. فكل ما كانوا يرونه أن أحد المسلمين يحاول أن ينضم إلى جيش المسلمين وإلى دولة المسلمين.. ولا يستطيع المسلمون مع قوتهم ومع دولتهم أن يأخذوه.. وكان الصحابة رضي الله عنهم يرون أن ذلك هو الدَّنِيَّة في الدين.. وأن هذا نقص كبير في المعاهدة..
- حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الموقف.. وأبو جندل يُضرب من سهيل بن عمرو.. والرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يأخذه معه إلى جيشه.. فقام عمر بن الخطاب واقترب من أبي جندل وقرّب إليه مقبض سيفه موحيًا له أن يأخذ السيف ويضرب أباه.. وقال عمر بن الخطاب مخاطبًا أبا جندل: “اصبر يا أبا جندل.. فإنما هم المشركون.. وإنما دَمُ أحدهم دم كلب”.. ويُدنِي قائم السيف منه كما تقول الرواية..
- ويقول عمر بعد ذلك تعليقًا على ذلك الأمر: “رجوتُ أن يأخذ السيف فيضرب به أباه.. فضَنَّ الرجلُ بأبيه”..
رابع عشر.. في رأي المسلمين في شروط الصلح..
- فرأى بعضهم كالصدّيق ما رأى الرسول في الشروط وسلّموا بها..
- ورأى بعضهم ولا سيما في الشرط الثاني إجحافا بحق المسلمين.. وقالوا: سبحان الله!! كيف نرد إليهم من جاء مسلما.. ولا يردّون إلينا من جاء مرتدا؟ فأجابهم الرسول بالجواب الحكيم.. كما تقدم..
- ومن هذا الفريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. وكما هو معروف عنه من الصلابة في الحق وحب المراجعة فيما لم يستبن له فيه وجه الحق والصواب.. أبى إلا أن يعلن عما في نفسه.. فذهب إلى الصدّيق رضي الله عنه.. فقال: يا أبا بكر.. أليس برسول الله؟ قال: بلى.. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى.. قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى.. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!! فقال أبو بكر: يا عمر.. الزم غرزه.. وكأن الفاروق لما يزل في نفسه بعض الحرج في قبول هذا الشرط.. فرأى أن يستبين من الرسول وجه الحق وأن يسمع منه..
- فأتى رسول الله وقال له: ألست برسول الله؟ قال: “بلى”.. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: “بلى”.. قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى.. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال الرسول: ” أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره.. ولن يضيعني”.. فلم يكن بدّ من أن يذعن الفاروق وينتظر ما تجيء به الأيام.. ولم تلبث الأحداث أن أظهرت بعد نظر الرسول كما ستعلم عن كثب..
(هذا ما ورد في السيرة لابن إسحاق).. وفي الصحيح أنه أتى النبي أولا فسأله.. ثم أتى أبا بكر بعد ذلك فسأله.. وقد رجّحت ما في السيرة على ما في الصحيح لأن بقاء شيء من الشك بعد سؤال الفاروق للصدّيق حتى سأل النبي فأزال ما بقي عنده أقرب من بقاء شيء من الشك بعد سؤال عمر للنبي حتى سأل الصدّيق فأجابه وأزال ما بقي عنده.. وقد استشعر الفاروق وقد هدأت ثورته النفسية أنه ربما يكون قد جانبه الصواب في التردد في السؤال.. أو احتمال أن يظن به الشك.. فكان يقول: ما زلت أصوم وأتصدّق.. وأصلّي وأعتق من الذي صنعت يومئذ.. مخافة كلامي الذي تكلمات يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرا.. وفي صحيح البخاري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا.. أي الأعمال الصالحة المذكورة.. أراكم على خير إن شاء الله..
التعليقات مغلقة.