في جهاد الصحابة.. بقلم/ مجدي سـالم
الحلقة السادسة والتسعون.. عتبة بن غزوان.. “المتفرد يرفض الإمارة..”
- يروى أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال يوماً لقريش: “هل فيكم من ليس منكم” قالوا: ابن أختنا عتبة بن غزوان.. قال: “أبن أخت القوم منهم وحليف القوم منهم”.. نكمل..
ثالثا.. إمارته على الأيلة والبصرة.. دخل عتبة مدينة الأبلة دون أن يفقد واحداً من رجاله.. ثم فتح ما حولها من المدن والقرى.. وغنم من ذلك غنائم كبيرة.. عند ذلك رأى عتبة أن إقامة جنوده في المدن المفتوحة سوف تعودهم على لين العيش.. وتفلُّ من حدة عزائمهم على مواصلة القتال. فكتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في بناء مدينة البصرة.. فأذن له.. فاختط عتبة المدينة الجديدة.. وكان أول ما بناه مسجدها العظيم.. ثم تسابق الجند على اقتطاع الأرض وبناء البيوت.. لكن عتبة لم يبق لنفسه بيتاً.. وإنما ظل يسكن خيمة من الأكسية.. وكان قد أسرَّ في نفسه أمراً..
فجمع الناس في مسجد الكوفة.. فقال: “الحمد لله.. أحمده وأستعينه.. وأومن به وأتوكّل عليه.. وأشهد أنْ لا إله إلاّ الله.. وأنّ محمّدًا عبده ورسوله.. أمّا بعد أيّها النّاس فإنّ الدّنْيا قد ولّت حذاء وآذنت أهلها بوداع فلم يبقَ منها إلاّ صُبابة كصُبابة الإناء.. ألا وإنّكم تاركوها لا محالة فاتركوها بخير ما بحضرتكم. ألا وإنّ من العجب أن يُؤتى بالحجر الضخم فيُلقى من شَفِير جهنّم.. فيهوى سبعين عامًا.. حتّى يبلغ قعرها.. والله لتُملأنّ. ألا وإنّ من العجب أنّ للجنّة سبعة أبواب عرضُ ما بين جانبي الباب مسيرة خمسين عامًا.. وايم الله لتأتين الساعة وهي كظيظة من الزحام.. ولقد رأيتُني مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم سابع سبعة ما لنا طعام إلاّ ورقُ البَشَام وشَوكُ القَتَاد حتّى قَرِحت أشداقنا.. ولقد إلتقطتُ بردة يومئذ فشققتها بيني وبين سعد بن أبي وقّاص..
وقد رأيتنا بعد ذلك وما منّا أيها الرهط السبعة إلاّ أمير على مِصْرٍ من الأمصار.. وإنهّ لم تكن نُبُوّة إلاّ تناسخها ملك فأعوذ بالله أن يدركنا ذلك الزمان الذي يكون فيه السلطان ملكًا وأعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا وفي أنفس النّاس صغيرًا.. وستجرّبون الأمراء بعدنا وتجرّبون فتعرفون وتنكرون”.. - وقيل أنه كان يصلي بالناس ويفقههم في دينهم.. ويحكم بينهم بالعدل زاهداً ورِعاً بسيطاً.. ولما رأى الضيق على وجوه الناس بسبب صرامته في حملهم على الجادة..ومحاولة الكثيرين أن يحوّلوه عن نهجه.. ويثيروا في نفسه الشعور بالإمارة.. وبما للإمارة من حق.. لا سيما في تلك البلاد التي لم تتعود من قبل أمراء من هذا الطراز المتقشف الزاهد قال لهم: “غدا ترون الأمراء من بعدي”..
- وراح عمر يرسل الرجال إليه المائة والخمسين ونحو ذلك.. مددًا لعتبة إلى البصرة.. وكان سعد يكتب إلى عُتبة وهو عامله.. فوجد من ذلك عُتبة فاستأذن عمرَ أن يقدم عليه فأذِنَ له واستخلَفَ على البصرة المغيرة بن شُعبة.. فقدم عُتبة على عمر فشكى إليه تسلّط سعد عليه فسكتَ عنه عمر فأعاد ذلك عُتبة مرارًا.. فلمّا أكثرَ على عُمر قال: وما عليك ياعُتبة أن تقرّ بالإمْرة لرجلٍ من قريش له صُحبة مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وشَرف..
- فقال له عُتبة: “ألستُ من قريش؟ قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:حَليفُ القوم منهم.. ولي صُحبة مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.. قديمة لا تُنكر ولا تُدفع”.. فقال له عمر: “لا يـُنكر ذلك من فضلك”..
- قال عُتبة: “أما إذا صار الأمر إلى هذا فوالله لا أرجعُ إليها أبدًا”.. فأبَى عمر إلاّ أن يردّه إليها.. وقيل أنه لما جاء موسم الحج.. مضى إلى المدينة المنورة.. فلما قَدم على الفاروق استعفاه من الولاية فلم يعفه.. فألح عليه.. فأصر عليه الخليفة.. وأمره بالعودة إلى البصرة.. فأذعن لأمر عمر كارهاً.. وركب ناقته وهو يقول: “اللهم لا تردني إليها”.. كان عتبة زاهداً في الحياة وطالباً للآخرة.. وذلك الذي جعله يقف ويدعو الله ألا يتولى الإمارة بعد أن رده عمر بن الخطاب رضي الله عنه إليها..
رابعا.. في روايته للحديث النبوي.. فقد روى عتبة بن غزوان عن: النبي صلى الله عليه وسلم.. - وروى عنه: خالد بن عمير العدوي وقبيصة بن جابر وغنيم بن قيس المازني وشويس أبو الرقاد وحفيده عتبة بن إبراهيم بن عتبة بن غزوان وفي الجرح والتعديل فلعتبة حديث في صحيح مسلم كما روى له الترمزي والنسائئ وابن ماجه..
خامسا.. في وفاته رضي الله عنه.. فقد دعا ربه سبحانه وتعالى ألا يردّه إلى البصرة.. ولا إلى الإمارة أبدًا.. فاستجيب دعاؤه.. فبينما هو في طريقه إلى ولايته أدركه الموت.. وفاضت روحه إلى بارئها.. مغتبطة بما بذلت وأعطت.. وبما زهدت وعفت.. وتوفي بطريق البصرة وافدًا إلى المدينة سنة سبع عشرة. وقيل: مات سنة خمس عشرة.. وعاش سبعًا وخمسين سنة رضي الله عنه… ألقاكم غدا إن شاء الله..
التعليقات مغلقة.