في ذكرى نجم : “أحمد فؤاد نجم” من كتاب “فقراء لكن عباقرة -تحت الطبع” بقلم عبد الفضيل السروي
سنكتفي باللقب “نجم” اختصاراً ، جاء نجم الأول في القائمة حسب الترتيب الهجائي لكنه يستحق الصدارة باعتباره سفيرا الفقراء بترشيح من المجموعة العربية في صندوق مكافحة الفقر التابع للأمم المتحدة التي نصبته سفيراً للفقراء.
أحمد فؤاد نجم من مواليد الشرقية سنة 1929 وهو من أسرة مصرية فقيرة فى الريف المصري ووالده كان يعمل فى البوليس في عمل بسيط
نجم من أسرة فقيرة كبيرة العدد، تلقى أول تعليم في الكتاب، توفى والده وهو غض ، فانتقل للعيش مع خاله الذي دفعة لملجأ الأيتام، وفى ملجأ الأيتام قابل عبد الحليم حافظ .
و رغم أن هذه المرحلة تركت جرحا غائرا في نفس عبد الحليم حافظ لكن نجم يقول عنها : “أن هذه المرحلة لم تترك أي أثرا سلبيا في نفسه، فعبد الحليم كان منكسرا، أما نجم فكان (ولدا شقيا) يشتكى منه طوب الأرض و كان الكل يشتكى من شقاوته ويبدو الكلام منطقيا بالنسبة لتطور شخصية عبد الحليم المستكين الموهوب وتطور شخصية نجم الموهوب المشاكس، عندما أكمل 17 سنة ترك الملجأ و رجع قريته ومنها إلى أخيه فى القاهرة .
تصاريف القدر.
وفى القاهرة يتدخل القدر ليقع نجم في هوى الحشيش، (والحشيش عايز فلوس )وهو فقير فَيَزَوّر ورقة صرف أقمشة شعبية رخيصة فيدخل السجن، وفى السجن يلتقي بالسجناء السياسيين: الشيوعيين والإخوان المسلمين ، وفي هذه المرحلة الجوهرية في حياته يعيد نجم اكتشاف نفسه واكتشاف العالم حيث يقترب الفتى القَلِق والمتطلع إلى الإخوان المسلمين فيلفظوه فيذهب للشيوعيين ليبدأ في التعلم و يستمع لتحليلاتهم السياسية ويقرأ كتبهم ويتعلم معارضة السلطة فيقرا ( الأم )لمكسيم جوركي بإرشادهم ليستفسر ويتلقى إجابات مقنعة ويعرف ما معنى أن تكون يساري منحاز لفقراء ومختلف عن الإخوان المسلمين الذين نبذوه، وهكذا يصبح نجم -ومع مرور الوقت -أحد علام اليسار فى مصر وإحدى أيقوناته ويسمع أشعار الشيوعيين ويراقب فؤاد حداد وهو يقرض الشعر وقد تمدد على الأرض وغطى وجهه ببطانية ويحرك أصابع قدميه سأل : ماذا يفعل هذا الرجل؟ هل يكتب الشعر ؟ ولماذا يحرك أصابع قدميه كي يضبط إيقاع القصيد يسمعه ثم يقلده ؟
واستيقظت ملكات نجم في هذه المرحلة ، فأعاد بناء نفسه وجرب أن يقرض الشعر ليسرق بعض أشعار حداد ويكمل عليها ، و طاوعه الشعر ليكتب شعره الخاص ويتوقف عن سرقة شعر حداد ويصدر ديوانه الأول (عيون الكلام )داخل السجن
خرج نجم من السجن شخصا مختلفا، إنها تصاريف القدر ، يدخل السجن مزوراً فيخرج سياسياً شاعرا، يا لها من منحة!! وحين يعود للسجن مرة ثانية ؛ يدخله -ذو حيثية- باعتباره شاعرا سياسيا بتعليمات من ناصر شخصياً ويخرج بتوجيه من السادات ، ليعود إلى السجن مرة أخرى بتعليمات من السادات الذي كان يعرف أنه شاعر موهوب ولكن كان يراه إنسان بذئ وشخص ناكر للجميل، ولذا أدخله السجن مرة ثانية بعدما سمع نجم وهو يقلده في قصيدة (بيان هام )وهو يقول : “يبعتوا لي وفد وأنا أُفَهِمّه واللي مش هيفهم ها فرُمة” وهذا ليس مديح في السجن المصري، إنها تجربة نجم الخاصة.
بعد الخروج الأول 1962 من السجن ؛ يلتقي نجم بالشيخ إمام ليكونا أحد ملامح مصر الثقافية فى القرن العشرين ، ويقدما أغاني صارت من الكلاسيكيات مثل : “مصر يا أمه يا بهية ” ، “شرفت يا نيكسون” و ” جيفارا” ……
أبدع نجم في الشعر الجميل و البسيط خاصةً بعدما التقى بالشيخ إمام (مغنى فقير معزول كفيف في حي الحسين في مكان يسمى خوش قدم أي الرِجْل المَبْروكة بالقرب من حي الباطنية عاصمة الحشيش في الشرق الأوسط ، نجم وإمام من دراويش الحشيش ) هذا اللقاء كان نقطة فارقة في مشوارهما تكاملا وكونا حالة فنية فريدة قدموا من خلالها غناء مختف و استقطبوا المثقفين ليسمعوا فى بيئة فقيرة مثل بيئة العصور الوسطى ليسمعوا غناء مختلف عن غناء عبد الوهاب وأم كلثوم وحليم .
لفتت هذه الظاهرة نظر الدوائر الثقافية ، فدعوهم لتقديم برنامج في الإذاعة بعنوان : نصف ساعة مع الشيخ إمام ، حتى كانت نكسة 67 و قال الأبنودى ؛ “وبلدنا على الترعة بتغسل شعرها جانا نهار مَقِدرش يدفع مهرها ليهبط عليها ليل حزين ” أما نجم فقال : ” سينا ماسيناش ” وغنى إمام : “إن شا الله يخربها مداين عبد الجبار ( ناصر) “، ولابد أن عبد الجبار سمع الأغنية الشامتة والموجعة وإلا ما أوصى أن يدخلا السجن وما يخرجوا إلا بإذن منه و دخلا السجن ولكن التكنولوجيا كانت قدمت دعما لفن الرجلين فانتشرت أغاني إمام ونجم في كل أرجاء العالم العربي ، لنجد فى كل تجمع طلابي عربي في العالم شرائط إمام مع أغلب الطلبة المبعوثين يتبادلونها، وحين ينهى الطالب مأموريته؛ يسلم الشرائط للقادم كأنها تراث يجب الحفاظ عليه، صار نجم وإمام أيقونات ثقافية ، و مات عبد الناصر قبل أن يفرج عنهما .
ودخلت مصر حرب أكتوبر وانتصر السادات و قرر أن يفرج عن متنبي العامية وميكرفونه إمام ليشيدا بمجده العظيم كما كان يفعل المتنبي مع سيف الدولة، كان المتنبي طامعا و لكن أثبتت الأيام أن السادات عَشَمه لم يكن في محله لأن نجم ليس سهل الترويض.
كان نجم من الزهّاد ولم يقع في فخ الطمع فلم يدنس الطمع عَرضه ، صار غَنياً بالناس ، يسعى الأعلام والأغنياء لاكتساب صداقته ووده .
صداقته مع نجيب ساور معروفه حيث كان ولاء نجم لمشروعه الثقافي وللناس عميقا وهذا سبب استمراريته ، كان يكفيه (لقمة عيش وشوية فول وشربة ماء من القُلة ونَفَسين حشيش) ، و كان زهده وترفعه أهم مصادر قوته
هاجم نجم الجميع بلا رحمة وأوجعهم ناصر ( عبدا لجبار) هيكل (أونكل ميكى) وأم كلثوم ( قُلَة الملح) وزير الداخلية: (العيسوي بيه رمز الكماشة والطفاشىة ) و الأبنودى (الشاعر الأكرت ) أما النصيب الأكبر من هجومه الساخن فكان من نصيب السادات الذي أفرج عنه و شكره برسالة شكر معكوسة مُتَعَمدة (السادات هو المعلم شعبان البقال ) وفى عالم الكيف أصبح السادات (المعلم شحاتة المُعَسل ) أما نيكسون ضيف السادات فهو (الحاج نيكسون) الذي يزور مكة وآل البيت وعكة ، حصل نيكسون على قصيدة فريدة وغناها إمام وكأنها غناء حشاشين .
ذهب نجم لقبر ناصر وقرأ الفاتحة ورثاه وقال : إن كان جرحنا فكل الجراح طابت فلا قواعد صارمة في عالم الفن والسياسة بعد كل هذا الشَغَب والنكران .
و كان من الطبيعي أن يُرْجِع السادات الشاعر البذئ وتابعه – حسب تعبير السادات – إلى السجن إلى أن يتذكرهم مبارك ويفرج عنهما. ولكن مبارك لم يفلت من الهجوم أيضا ، فقد هاجما ابنه جمال وهاجم حمامته وصفها بأنها حمامة سلام نائمة وممكن تسألوا سوزان !
أتذكر وأنا طالب بكلية الآداب بجامعة القاهرة بفضل الفرصة الناصرية كنت في المدينة وكان بجانبي صلاح ، كنّا نناديه صلاح فِسْكى ، فصلاح شيوعى وهو الذي علّمنا التدخين ، أقلعت عن التدخين من سنوات ـــ كان صلاح يعلمنا الشيوعية ويبعدنا عن عبد الفتاح الضرير الإخوان صاحب الحجرة في نهاية الطرقة و لم يكن عبد الفتاح أعمى ولكن كان يرتدى نظارة سميكة ويميل للعزلة ويدعونا للصلاة الجمعة عند الشيخ كشك ، صلاح يعطينا شرائط إمام وجهاز كاسيت قديم ويشرح لنا الشعر الذي كان مختلفا عن شعر كتاب النصوص ، شعر يمكن تذوقه وفهمه وحفظه كانت عقولنا مازلت غضة .
قامت مجموعة من اليساريين في السنبلاوين باستفاضة نجم وإمام وأقاموا حفلة فوق سطوح أحد المنازل ، و كانت الحفلة تفوح فناً وحشيشاً و لم أحضر هذى الحفلة ولكن حضرها أحد أصدقائي و هو أديب يساري أنقل عنه الواقعة ، ولكنى حضرت الحفلة في مقر التجمع في مدينة المنصورة وشاهدت اعتراض المرحوم رأفت سيف على أغنية (يا خواجة يا بتاع الجاز ) التي لم تعجبه بسبب عبارة ( يا كارتر يا ندل ) هذه الأغنية ليست بقوة أغنية نيكسون بابا وأغنية ديستان أغنية كارتر زى أغاني المناسبات معمولة على عجل وسد خانه إذ لا يصح أن يفلت كارتر بعملته لكن في نفس الحفل غنى الشيخ إمام نيكسون بابا بتاع الوترجيت وديستان بتاع شلاطة جان حيث حازت على إعجاب كبير وضحكات عالية صارت هذه الأغاني تراث ملك الجميع.
رحل نجم عن عمر ناهز 84 عاما بعد أن أصبح شخصية عربية وعالمية مرقومة و بعد وفاته رَدد عشاقه قولته : “مصر مهرة حبّالة ولاّدة وفيها الطلْق والعادة”.
و بمناسبة وفاته أعدت هيئة البي البى سى برنامجا مدته عشر دقائق خصيصا عن وفاة نجم ، حيث عرض البرنامج خبر الوفاة كما ظهر في الصحف الأوربية الرئيسية. و استضاف البرنامج أعلاما ليتحدثوا عن مشواره .
التعليقات مغلقة.